في أيام 9 – 11 كانون الأول 2022، وتحت شعار " خبز حرية ورد"، عقد في العاصمة النمساوية فيينا المؤتمر السابع لحزب اليسار الأوربي. وانتخب المؤتمر الاقتصادي والرئيس الأسبق للحزب الشيوعي النمساوي والرئيس السابق لشبكة تحول للبحوث التابعة لحزب اليسار الأوربي، الدكتور فالتر باير رئيسا جديدا للحزب خلفا للألماني هاينز بيرباوم .

 وحزب اليسار الأوربي يمثل اطارا يضم (26) حزبا يتمتع بالعضوية الكاملة من 25 بلدا أوروبيا، و(21) حزبا آخر بصفة مراقب، وهناك أحزاب ومنظمات يسارية لديها شراكة مع الحزب. واحزاب اليسار ممثلة في البرلمان بكتلة اليسار (28) نائبا، وما مجموعه (344) نائبا في البرلمانات الوطنية للدول التي ينتمون اليها.

 وصدرت عن المؤتمر وثيقة سياسية تضمنت، بين قضايا أخرى، الدعوة إلى تحول اجتماعي - إيكولوجي، وتوسيع وضمان الحقوق الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي، ووقف فوري لإطلاق النار في أوكرانيا وانسحاب القوات الروسية.

 وبهذه المناسبة نشرت جريدة "نويز دويجلاند" اليسارية الألمانية، في عددها الصادر في 29 كانون الأول الفائت، حوارا مع باير تناول فيه التحول الذي تشهده أوربا نحو اليمين المتطرف، والتحديات التي تواجه قوى اليسار، في ظل الأزمة والحرب في أوكرانيا. فيما يلي عرض لأهم ما جاء في الحوار.

 مهمة صعبة

 في البداية أكد باير متابعته للإشكالات والصعوبات التي يعاني منها حزب السيار الأوربي سياسيا وفكريا، والتحديات التي تواجه القيادة الجديدة والشيء نفسه ينطبق على نواب الرئيس وسكرتارية الحزب السياسية.

اما بشأن مشاكل الحزب الهيكلية، فان حزب اليسار الأوربي يعيد بطريقة ما إنتاج معضلة الاتحاد الأوروبي: في التناقض بين حقيقة أن تأثير قاعدة الأحزاب تنحصر في إطار الدولة الوطنية، وعلى مختلف المستويات الولايات، المدن، بينما يتم من ناحية أخرى تحديد التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل متزايد خارج حدود الدولة الوطنية. ولا تتم هذه العمليات، بشكل أساسي، من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أهمية هذه المؤسسات كأطر للنقاش السياسي، بل من خلال العلاقات الاقتصادية. ويؤدي هذا إلى ظهور مشكلة استراتيجية: الأحزاب اليسارية تعارض الليبرالية الجديدة والرأسمالية فوق القومية التي تروج لها مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولكن لديها فرصة ضئيلة لمواجهة هذه العمليات على المستوى الأوروبي بسبب تأثيرها المحدود خارج حدود دولتها الوطنية.

ان ذلك سيكون مفيدًا للغاية لحزب اليسار الأوربي، عند القيام بتحليل منطق التكامل الأوروبي بمزيد من العمق في مجالات السياسة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، للوصول الى استنتاجات مشتركة في السياق الوطني. على سبيل المثال في السياسة الصناعة الأوروبية. إذا نظرنا الى المشاكل في جنوب أوروبا، حيث حدث تراجع التصنيع في السنوات الأخيرة، فإن المشاكل تبدو مختلفة عنها في شمال أوروبا ومختلفة مرة أخرى في الشرق، حيث ظهرت مواقع انتاج موسعة لصناعة السيارات الألمانية. بالطبع يمكن القول إن عليهم جميعًا التعايش بطريقة ما في إطار التركيبة القائمة. بعضها مراكز سياحية، والأخرى مورِّد للعمالة الرخيصة، مثلا في قطاع الرعاية الصحية، بينما ينبغي للمراكز أن تضمن انجاز التحول إلى التكنولوجيا العالية، مع مراعاة الشروط البيئية. لكن الامور لا تسير على هذه الشاكلة.

 البدائل الممكنة

 وضع سياسة صناعية لعموم أوروبا تلتزم بعملية تحول بيئي وعمليات تحول حركة النقل. وهذا يقود مباشرة إلى الموضوع الأهم، الديمقراطية. فاذا كانت هناك رغبة في الحصول على مثل هذه الخطة الكبيرة، فمن يقررها وكيف يتم تنفيذها؟ وكيف يتطور الإجماع على الإطلاق؟ في الوقت الحاضر، يتسم هيكل الاتحاد الأوروبي بتوصل الكبار إلى اتفاق في إطار المجلس الأوروبي، ثم يعارض الصغار. والنتيجة هي تسوية ضعيفة بين الليبراليين الجدد والقوميين. يجب على اليسار الأوربي مناقشة هذه الأسئلة بعمق واستخلاص النتائج. وهذا بدوره يمكن ان يعزز وحدة اليسار في أوروبا بشكل كبير.

هناك وحدة في حزب اليسار الأوربي بشأن القضايا الرئيسية مثل السلام والضمان الاجتماعي. ويبدأ الجدل بالفعل عند العمل لتحقيق هذه الأهداف، للتأثير على سياسة الاتحاد الأوروبي، وهنا يجب على الأحزاب اليسارية واليسارية الخضراء أن تتعاون أولاً.

الاختلافات الموجودة بين الأحزاب لا ترتبط أولا بالطبيعة الأيدولوجية، ولكنها متجذرة في حقائق اجتماعية مختلفة. والسياسة تعني بالطبع إيجاد حلول وسط تتيح التحرك لكن الامر متعلق في تعميق التحليلات، لاكتشاف المشترك في المواقف المختلفة.

 التشابه بين أحزاب متباينة القوة

 تركيبة حزب اليسار الأوربي والبلدان التي تنتمي اليها الأحزاب العاملة فيه بأشكال متنوعة، هناك دول صغيرة فيها أحزاب صغيرة، ولكن أيضًا تضم أحزابا كبيرة، كما هو الحال في اليونان وقبرص. وبالمقابل، هناك دول كبيرة فيها أحزاب يسارية صغيرة، وأخرى كبيرة، وخاصة فرنسا. في الدول الاسكندنافية، حيث تشارك الأحزاب في الحكومات، وفي إسبانيا، تعتبر أحزاب تحالف اليسار أيضا جزءًا من الائتلاف الحاكم. وهذا ينتج رؤية مربكة. التماسك هنا مسألة إرادة سياسية.  لقد عكس مؤتمر حزب اليسار الأوربي في فيينا أن الرغبة في الحفاظ على تماسك أوروبا يسارية قوية، وخصوصا بين الأحزاب القوية.

 الاختلاف بشأن استراتيجيات اليسار، هو الأبرز هو الذي حدث بين حزب اليسار اليوناني (سيريزا) بزعامة الكسيس تسبراس وحركة فرنسا الابية في فرنسا بزعامة ميلنشون، اللذين يعدان من أقوى أحزاب اليسار في أوربا، وأدى ذلك الى عدم التعاون بينهما. والاختلاف بين الطرفين لا يزال مستمرا، وهذا يؤكد ما تمت الإشارة له سابقا، الاختلافات في أوضاع الدول الوطنية، يؤدي الى اختلافات في المواقف الاستراتيجية. بالنسبة لحركة فرنسا الأبية الأولوية لدور قوى في السياسة الداخلية، التي ينبغي أن يكون لها تأثير على العالم الخارجي أيضًا. خاصة وأن فرنسا هي إحدى الدول الأوروبية الأساسية. والقضايا المطروحة مختلفة عن تلك المتعلقة باليونان، التي كانت في وضع ميؤوس منه في مفاوضاتها مع الترويكا (صندوق النقد، المفوضية الأوربية، والبنك المركزي الأوربي).

ومن المهم الإشارة الى ان حزب اليسار اليوناني يستعيد مواقعه التي فقدتها في مواجهة السياسات الليبرالية الجديدة الاستبدادية لحكومة اليمين الحالية. وبقدر ما يتعلق الأمر بالصراع بين الطرفين: أرسلت المتحدثة باسم حركة فرنسا الأبية مانون أوبري، التي تترأس كتلة اليسار في البرلمان الأوروبي مشاركة مع رئيس حزب اليسار الألماني مارتن شردوان، رسائل مصالحة الى حزب اليسار اليوناني في منتدى اليسار في أوروبا في أثينا، وفي مؤتمر حزب اليسار الأوربي الأخير في فيينا.  أن هناك الآن وجهة نظر لليسار الفرنسي مفادها: إذا فاز حزب اليسار اليوناني في الانتخابات العامة في عام 2023، فسيؤدي ذلك إلى تحسين وضع اليسار الفرنسي أيضًا. وعلى العكس من ذلك، فإن اليسار الفرنسي، كطرف قوي في دولة قوية، سيكون لديه الفرصة أيضًا لدعم حكومة بقيادة حزب اليسار في اليونان.

 تقارب بشأن المختلف عليه

 استطاع مؤتمر فيينا ان يتجاوز الجدل بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا، ودور الناتو، ويعود ذلك ان المواقف ليس متباعدة الجميع يدين العدوان الروسي، والنزاع مرتبط بحقيقة عدم مناقشة مسائل الأمن الأوروبي منذ فترة طويلة. لقد نشأ الانطباع بوجود نزاع درامي وشيك، فمن الصعب مناقشة المشاكل المعقدة في مؤتمر حزبي. السؤال الرئيسي هو ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الناتو في السياسة الأمنية الأوروبية. ويبدو أن الإجابة على هذا السؤال مختلفة في شمال وجنوب أوروبا.  تتأثر فنلندا، حيث يشارك تحالف اليسار في الحكومة، بشكل مختلف بالسياسة الروسية عن إيطاليا. لكن يجب القول بوضوح، ان انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو خطأ مأساوي خطير.

معظم الأحزاب العاملة في حزب اليسار الأوربي تنتمي لدول أعضاء في الناتو. هذا الواقع لم يمنع الحزب من توجيه انتقادات حادة لحلف الناتو دوما. ولن يغير من هذا الموقف انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو. إن منع نشر أسلحة نووية هجومية في أوروبا ذات أهمية مركزية بالنسبة لحزب اليسار الأوربي، الذي يريد أوربا خالية من السلاح النووي. ولا يبدو ممكنا تنفيذ سياسة نزع السلاح النووي بوجود الناتو. وفكرة زيادة الأمن من خلال توسيع التحالفات العسكرية، أي أن الردع يشكل أساس الأمن، هي في حد ذاتها خطر أمني.  لقد هددت روسيا باستخدام أسلحة نووية تكتيكية في حرب أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، اختبر الناتو قدرات قواته النووية في شمال أوروبا. الجنون في أوربا يكمن بوجود 108 محطات طاقة نووية و300 مدينة. بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة، فإن الحرب في وسط أوروبا بأسلحة نووية تكتيكية قد تمثل خطرا محسوبا، اما بالنسبة لأوروبا فيعني ذلك كارثة. وهذا سبب الحاجة إلى الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي استندت إليه مفوضية الاتحاد الأوروبي. لكن في ظروف المواجهة السياسية والعسكرية، يصبح الامر كله الوهم بعينه.

 خطر اليمين المتطرف

لا يوجد تفسير وحيد لخطر اليمين المتطرف. لكن الأمر يتعلق بانعدام تامين استمرار الحياة، أي الخطر الوجودي، الذي استحوذ على الكثير من الناس. لا يُنظر إليه، باعتباره ظلما فقط، بل يُنظر إليه أيضًا على أنه إذلال دائم. التطور التقني والانترنيت والحياة الاستهلاكية، لا تجعل الحياة أكثر صعوبة فقط، بل تمثل إذلالا دائما. ان الليبرالية الجديدة هي إذلال دائم للطبقة الوسطى في جنوب أوروبا، وهناك فقر يتزايد في بلدان شمال القارة، التي يتم تحديد موقع الناس في مراتبية تحددها القدرات المالية، فهناك مكان اول وثان وثالث ورابع. وهذا ما يثير غضب ورفض الناس، والسؤال هو ليس عن مشاركة 25 متطرفا يمينيا في هذا الاحتجاج او ذاك، بل من هم المحتجون ولماذا؟ في العديد من البلدان، يبحر اليسار عكس الريح ايضا، لأن الأحزاب اليمينية المتطرفة يتم المبالغة في تقييمها من قبل وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل اعلام ليبرالية، وهذه مفارقة. ان صعود اليمين المتطرف، في ظروف الازمة، ليس قانونا عاما، ويبين ذلك النجاح الانتخابي للحزب الشيوعي النمساوي في ثاني أكبر مدينة في النمسا.

إن الأعمال المدهشة للحركات المدافعة عن البيئة وموجات الإضرابات في أوروبا الغربية: وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا العظمى، والنمسا أيضا تثبت أن خيار المقاومة موجود ومؤثر.

*- نشرت لأول مرة في  مجلة الشرلرة العدد 162/ كانون الثاني 2023

عرض مقالات: