أتابع سلسلة الندوات التي ينظمها المنبر التقدمي الديمقراطي الفلسطيني، والتي تهتم بأسئلة القضية الفلسطينية بتنوعها واتساعها، وكذلك بأسئلة اليسار في البلدان العربية والشرق الأوسط؛ حيث استضاف المنبر بندوته الإلكترونية رقم 36، بعنوان "34 عاما على تبديد إنجازات الانتفاضة الأولى 1987" وذلك يوم الأربعاء 15/12/2021 مساءً على تقنية زوم، الرفيق ماهر الطاهر عضو المكتب السياسي ومسؤول دائرة العلاقات السياسية في الجبهة الشعبية والرفيق بسام الصالحي، الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني والرفيق قيس أبو ليلى نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية، فيما أدار الندوة الرفيق الدكتور مضر قسيس أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت. وقد نُشر تلخيص وافٍ عن مجريات الندوة، حررها الرفيق الدكتور بهيج سكاكيني، وراجعها الرفيق نضـــال مضيــــه.

الحوار بين القادة الثلاثة حظي باهتمام كبير من متابعيه، واعتبره الكثير منهم مفيدا وصريحا، ومباشرا. وفي وقفتي المتأخرة هذه، سأتناول الملاحظات الختامية للضيوف الثلاثة، ربما لأهميتها للمتابع غير الفلسطيني، انطلاقا من ان اهل اليسار في فلسطين عارفين بما يدور في ساحتهم من تلاق وتباين.

إذا كانت الأهمية التي اشرت اليها تكمن في الخلاف المنهجي والرؤيا وبالتالي في تحديد المواقف السياسية الآنية والمستقبلية من مجريات نضال شعب فلسطين من اجل نيل حقوقه الوطنية المشروعة كاملة غير منقوصة، فأنها كانت أيضا مناسبة أخرى للخوض في خلاف منهجي لا ينحصر في قوى اليسار الفلسطيني بل يكاد يشمل أيضا اليسار العالمي عموما.

وقبل هذا وذاك وجدت في الملاحظات الختامية تقديم صورة سلسلة لمواقف قوى رئيسية في اليسار الفلسطيني، غيبتها تطورات العقود الثلاثة الأخيرة عن ذهن أوساط واسعة من جمهور اليسار في البلدان العربية، الذي اجبر على الانشغال بالكوارث التي حلت بساحاته الوطنية، ناهيك عدم الوضوح الفكري الذي بدأ مع تفكك منظومة البلدان الاشتراكية، ولا يزال البحث فيه والحوار بشأنه مفتوحا.

الجبهة الشعبية

الرفيق ماهر الطاهر أشار الى ان المشكلة تتمحور حول فهم طبيعة المشروع الصهيوني، وتساءل بشأن إمكانية وجود حل سياسي معه؟ مؤكدا ان هذا المشروع يريد استئصال الاخر، وبالتالي ينفي الرفيق اية إمكانية لحل سياسي او إقليمي، وان الصراع هو صراع وجود، وهذا ما أكدته، وفق رؤيته تجربة أكثر من 50 عاما، فالمشروع الصهيوني انتقل من فلسطين الى بلدان عربية أخرى. وهذا جوهر خلاف اليسار الفلسطيني بشأن حل الدولتين، الذي عدّه منتهيا بالنسبة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويرى الرفيق ان القرارات الدولية والبلدان الأوربية لا تعترف بشيء اسمه دولة فلسطينية، وابدى استغرابه، معتبرا الحديث عن حلول مجرد أوهام. وان الأهداف المرحلية بالنسبة له نجاحات ميدانية يحققها الفلسطينيون، ويمكن تحرير أجزاء من فلسطين. ودعا الى سحب اعتراف السلطة الفلسطينية بإسرائيل، واستشهد بمشاركة فلسطيني 48 في معركة سيف القدس.

حزب الشعب

 شدد الرفيق بسام الصالحي (حزب الشعب الفلسطيني)، على ان اليسار الفلسطيني غير مختلف بشأن طبيعة الحركة الصهيونية، وليس لديه شك في حدود فلسطين التاريخية، رافضا النظرة التبسيطية التي تحاول القفز على المسلمات. وان برنامج المقاومة 1965 / 1966 كان متفقا عليه، وان اليسار الفلسطيني اتفق مع البرنامج المرحلي بعد الانتفاضة الأولى. وان نضالات فلسطينيي 1948 ليست جديدة، وان اتفاقيات أوسلو سببت ضرر ا استثنائيا بالداخل الفلسطيني (الأراضي المحتلة 1948). وان تعزيز صمود الشعب الفلسطيني يتم عبر سياسات اقتصادية اجتماعية في ساحات تواجدهم، مؤكدا دعم حزب الشعب للكفاح المسلح، ولكن ما يميز اليسار، بالنسبة له، هو البرنامج الاجتماعي الديمقراطي التنويري، الى جانب الهم الوطني والسياسي. وفي هذا السياق أشار الى التقارب بين الجبهة الشعبية وحركة حماس. وان التبشير بنهاية حل الدولتين يعني تخلي الشعب الفلسطيني عن إقامة دولته، فهل هذا هو المطلوب؟ ان هناك قرارات دولية تؤكد حق إقامة دولة فلسطينية، وهذا مكسب تاريخي، وتخلي الفلسطينيين عن هذا الحق لا يفيد، الا إسرائيل. وان فهم الدولة لا ينحصر بالحدود، بل بالإقرار بحق الفلسطينيين بالدولة، ويمكن تحقيق أكثر من ذلك، ولكن يجب ان لا نتخلى عن الأصل. والمهم هو استنهاض قوى الشعب الفلسطيني، فلا خلاف على تعريف الحركة الصهيونية.

الجبهة الديمقراطية

الرفيق قيس (أبو ليلى) أكد في ملاحظاته الختامية على ان المقاومة المسلحة أحد روافد الانتفاضة، اما المقاومة فمنهج شامل، ولا خلاف بين اليسار بشأن عدم الوصول الى الاستقلال عبر المسار الرسمي الحالي. والمطلوب هو تغيير موازين القوى، أي جعل الاحتلال أكثر كلفة. واعتبر فكرة لا شيء سوى التحرير، ولا طريق سوى الكفاح المسلح، برنامج قديم تجاوزته الحياة، والمطلوب تطويره وليس التخلي عنه، مشددا على ان الشعارات ليست بديلا عن البرامج الواقعية. ووصف الطرح احادي الجانب بالمعادلة القذافية (نسبة الى معمر القذافي)، وان الرؤية الأيدولوجية لا علاقة لها بالواقع، رافضا فكرة إقامة دولة فلسطينية باي شكل، وعلى اية بقعة. وتساءل عن سبب عدم قيام دولة فلسطينية في غزة، بعيدا عن الحلول السياسية. وان نضال الفلسطينيين وطني تحرري، والانتفاضة أحد أنصع صوره، واكد استنتاجه بتكرار الانتفاضة بالضرورة، داعيا الى الاستعداد والى تقييم نقدي للانتفاضات السابقة، وكرر فكرة تثمير نتائج وليس استثمارها، مذكرة بتجربة جنوب افريقيا ودور التضامن الأممي بانتصار شعبها.

وأضاف أن خارطة الطريق تحتوي على عناصر إيجابية، إقرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بوقف الاستيطان. ان الحوار هنا يدور حول الوصول الى تحليل واقعي بين فهمين، وليس خطابا موجها لجمهور شعبي. المطلوب الخروج من أوسلو، وليس الاختلاف على كون حيفا وعكا جزءا من فلسطين. ان النضال هو الوصول الى الهدف التاريخي، وليس التمسك بالشعارات.

 الخلاصة

يمكن رصد تباين منهجي بين رؤيتين الأولى قائمة على فكرة اما كل شيء او لا شيء، وفق سيناريو لاءات جمال عبد الناصر الشهيرة.  ويمكن ان نرجع ذلك الى التشبث بالجمود الفكري، وبماركسية موروث التجربة السوفيتية. وهذه الرؤية تقوم على فهم العداء للإمبريالية والصهيونية احادي الجانب، يستعيض عن الاستراتيجية بعيدة المدى، بشعارات الجملة الثورية والتكتيكات اليومية، ويتبنى خطابا شعبويا. ولهذا يقع في فخ التحالف والتنسيق مع قوى وأنظمة معادية للإمبريالية وإسرائيل، بعيدا عن طبيعتها، وبالتالي بعيدا عن فهمها للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية، في حين ان تجربة مناهضة الامبريالية، في عموم العالم، وفق رأيي المتواضع، اثبتت عدم إمكانية الفصل بين مناهضة الامبريالية والموقف من الديمقراطية المتلازمة مع العدالة الاجتماعية. بالإضافة الى صعوبة الحديث عن اشتراكية حقة، بعيدا عن الديمقراطية.

الرؤيا الثانية تتبنى موقفا نقديا بتقييم السياسات والانتفاضات، وتتمسك بالإيجابي وتعززه، ولا تجرد الشعب الفلسطيني من المكتسبات المتحققة باعتبارها منطلقا لتراكم مطلوب لتحقيق الأهداف الكبرى. وترفض نقل التباين والصراع بين قوى اليسار الفلسطيني الى دائرة المسلمات مثل طبيعة الحركة الصهيونية، وشرعية المطالبة بتحرير كامل التراب الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

اهتمامي بهذا التفصيل مرتبط بمعاناة طويلة عاشها الشيوعيون والديمقراطيون العراقيون بسبب التباين بشأن الربط بين رفض الحرب والمطالبة بإيقافها الفوري ورفض دكتاتورية صدام حسين والدعوة لاستمرار النضال من اجل اسقاطها. وكذلك الترابط بين ادانة غزو صدام للكويت، والمطالبة برفع الحصار الجائر على شعبنا العراقي، واستمرار العمل على اسقاط الدكتاتورية. يومها واجهنا أوساطا في يسار البلدان العربية، واقل منها في اليسار العالمي، تطالبنا بالكف عن المطالبة بإسقاط الدكتاتورية، بحجة ان هذه المطالبة تضعف الموقف الرافض للحرب والحصار.

يبقى ان نتساءل: لماذا لا يستفيد اليسار الفلسطيني من تجارب يسارية ناجحة في بلدان أمريكا اللاتينية، وبعض البلدان الأوربية، وحتى داخل الولايات المتحدة، في التنسيق بشأن المشتركات، وبالتالي تعزيز العمل المشترك، دون اهمال التباين، الذي يعني في هذه الحالة التنوع في إطار المعسكر الواحد؟ وهنا لا ينحصر اليسار الفلسطيني في إطار الفصائل الثلاث التي شارك قادتها في الحوار، وانما يتعدى ذلك الى قوى اليسار الفلسطيني الأخرى.

ان التعددية التنظيمية والفكرية الملموسة على الساحة الفلسطينية، والطبيعة الاستثنائية للنضال التحرري الفلسطيني تشكلان عاملين رئيسيين للتفكير بمثل هذه المطالبة.

وأخيرا، لقد انتصر اليسار التيشيلي، بعد 48 عاما على الانقلاب الفاشي في 11 أيلول 1973، لان قواه الرئيسية وضعت بين أمور أخرى خلافاتها جانبا.

عرض مقالات: