في 7 /11 /2020 حلت الذكرى الـ 103 لثورة اكتوبر العظمى، الثورة التي طبعت بصماتها على الاتجاهات الأساسية لتطور عالمنا خلال القرن العشرين الذي انقضى معظمه في ظل القطبية الثنائية. فالمؤرخ الماركسي البريطاني المرموق (إريك هوبسباوم) ختم آخر أعماله قبل رحيله بعنوان مثير: “عصر التطرفات”، راسماً صورة القرن العشرين بأنه قرن أكتوبر، القرن القصير الذي ابتدأ، برأيه، متأخراً في 1917، وانتهى مبكراً في 1991، سنة صعود (بوريس يلتسن)، مثلما ان القرن التاسع عشر كان قرن الثورة الفرنسية.
ونظرا لأن الحديث يدور هنا حول دور التكتيك الصائب في تحقيق النصر الاستراتيجي متمثلا بانتصار ثورة اكتوبر العظمى، تقتضي الضرورة المنهجية في البداية الإشارة وبتكثيف الى رؤية الماركسية لأشكال النضال وكيفية اختيار التكتيكات الملموسة طبقا للوضع الملموس. يميّز لينين بين الماركسية والمرجعيات الفكرية – السياسية الأخرى في أنها، أي الماركسية “لا تربط الحركة بأي شكل وحيد ومحدد للكفاح، فهي تسلم بأساليب النضال الأكثر تنوعا، وهي لا تخترعها، بل تكتفي بتعميمها وتنظيمها وجعل الأشكال النضالية للطبقات الثورية، التي تنبثق عضويا من خلال الحركة ذاتها، أشكالا واعية”.
ويعني ذلك أن الماركسية:
- ترفض الصيغ المجردة التي لا تنبع من الواقع أو التي تريد أن تقفز فوقه.
- وتستنبط أشكال النضال والتكتيكات الملموسة انطلاقا من حركة الجماهير وطبيعة نضالاتها ومستوى وعيها، التي تنبثق عنها طرائق جديدة دائما، متنوعة اكثر فأكثر، للدفاع والهجوم كلما تطورت الحركة الجماهيرية وتقدم وعيها واستفحلت الأزمات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية.
ولهذا السبب أكد (لينين) على أن “ الماركسية لا ترفض بصورة مطلقة شكلا نضاليا ما. وهي لا تعتزم في أي حال من الأحوال أن تقتصر على الأشكال النضالية الممكنة والموجودة في لحظة معينة، وهي تعترف بأن تغييرا للوضع الاجتماعي سيستتبع حتى ظهور أشكال نضالية جديدة لا يعرفها مناضلو الفترة المعنية بعد. ومن هذه الناحية تتعلم الماركسية، إن صح التعبير، من المدرسة العملية للجماهير، وهي أبعد من أن تدعي إعطاء الدروس للجماهير بعرضها عليها أشكالا نضالية تصورها صانعو الأجهزة في غرف عملهم”.
وإذ تؤكد الماركسية على هذه المبادئ المنهجية المتعلقة بأشكال النضال وتكتيكاته الملموسة، فإنها تؤكد، في الوقت ذاته، على بحث قضية أشكال النضال الملموسة في إطارها التاريخي الملموس. وبهذا الصدد يؤكد (لينين) على أن طرح “هذه المسألة خارج الظروف التاريخية الحسية، يعني جهل ألف باء المادية الديالكتيكية ... إن محاولة الرد بنعم أو لا حين تطرح مسألة تقييم وسيلة معينة للنضال دون أن تبحث بالتفصيل الظروف الحسية للحركة في درجة التطور التي بلغتها، يعني التخلي تماما عن الصعيد الماركسي”.
اعتبر لينين إن اختيار الطبقة العاملة وحزبها هذا الشكل للنضال أو ذاك أهم مسألة للتكتيك. ولا يمكن حل هذه المسألة مسبقا، في هدوء المكاتب الوثيرة، ولا يعطى الجواب عنها إلا تطور الحركة نفسها ومراعاة الخبرة التي كدستها الجماهير والظروف الوطنية الملموسة.
في حديث له مع (وليم بول) أحد مؤسسي الحزب الشيوعي البريطاني ملخصا ممارسة المعارك الثورية، قال (لينين): “إن ميدان النشاط الكفاحي هو أفضل مكان لاختبار آرائنا النظرية. والاختبار الحقيقي بالنسبة للشيوعي هو فهمه كيف وأين ومتى يحول ماركسيته الى فعل”.
ولم يكتف لينين بهذا التحديد بل أضاف إليه أطروحة مهمة أخرى وفحواها ما يلي: “ينبغي لنا أن نتذكر أن كل حركة شعبية تتخذ أشكالا متنوعة الى ما لا حد له، صانعة على الدوام أشكالا جديدة، نابذة الأشكال القديمة، محدثة تعديلات أو تركيبات جديدة من الأشكال القديمة والجديدة. وواجبنا أن نشترك بنشاط في هذه الصياغة لأساليب النضال ووسائله”.
بينت تجربة أكتوبر 1917 أن نجاحات النضال من اجل الاشتراكية لا تتوقف على الاختيار الصحيح للاتجاه العام للتقدم الاجتماعي وحده، بل أن ما ينطوي على مغزى كبير، بل وحاسم أحيانا، هو التكتيك الثوري المعتمد في النضال والبحث في أطر هذا الاتجاه العام عن أفضل الطرق والأشكال والوتائر لتصعيد النضال وتطويره لتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
ومن المفيد الإشارة الى أن هذا البحث صعب بل ومعقد، ذلك لأن تعدد أشكال الحركة نحو الهدف الثوري وتغير ما يظهر من الأوضاع الناجمة عن الخاصية الدولية كبيران جدا.
ثمة إشكاليات عديدة تتعلق بقضية الطرق والتكتيكات المستخدمة لتحقيق الوصول الى الهدف – الاستيلاء على السلطة.
- أولى هذه الإشكاليات تتعلق بمسألة استخدام ما يسمى بالطريق “المستقيم” أو الطريق “المتعرج” للتطور -حسب تعبير (لينين)-، اللذين يضع التاريخ أمام القوى المتصارعة تقرير اختيارهما.
- الطريق الأول – نضال الجماهير الثوري المباشر وإبداعها الثوري النشيط وهجومها الشامل الموجه نحو الإطاحة بالسلطة القديمة – هو الطريق “الأجدى بالنسبة للشعب، ولكنه يتطلب أكبر قوة أيضا”.
- والطريق الثاني هو الطريق “غير المباشر” و“الاضطراري”، حينما لا تكون القوى كافية ولابد من مساومة مؤقتة.
وإذ نظر (لينين) في هذين الشكلين قبل ثورة أكتوبر، نوه بأن “على الماركسي أن يناضل من اجل الطريق الثوري المباشر للتطور، حينما يفرض واقع الأمور الموضوعي هذا النضال”. وحينما أشار الى ضرورة مراعاة إمكان الطريق “المتعرج” أيضا، ركّز على أنه ينبغي في هذه الحالات “معرفة الإخلاص للمبادئ، للطبقة، للمهمة الثورية”.
إن هذه السياسة المرنة بشكلها، الصلبة والمبدئية بمغزاها الاجتماعي أعطت ثمارها في أكتوبر عام 1917.
- أما الإشكالية الثانية فتتعلق بالعلاقة بين الطريقين السلمي وغير السلمي للانتقال الى الاشتراكية. كما تبيّن كتابات عديدة له، كان (لينين) يسعى الى البحث عن أقل الوسائل إيلاما وأكثرها فائدة بالنسبة للجماهير الشعبية من أجل تأكيد النظام الاجتماعي الجديد. ونوه مقتفيا أثر ماركس وأنجلز بأفضلية النهج السلمي، على الرغم من أن مفهوم “السلمي” لا يعني بأي حال من الأحوال حركة بدون نضال طبقي، أي الاقتصار على الأشكال “البرلمانية البحت”. إن استمرار إمكان تطور الثورة سلميا الذي اعتبره (لينين) “قيما للغاية”، قد ظهر أكثر من مرة في فترة ما قبل أكتوبر، بما في ذلك ازدواجية السلطة (آذار-حزيران/ مارس-يونيو عام 1917)، حينما فقدت البرجوازية وسائل العنف الفعالة وتحقق أقصى حد من الحريات الديمقراطية وتوفر شكل جاهز ممكن سلطة الشغيلة على شكل السوفيتات.
يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه المسألة المفهوم الذي صاغه (لينين) حول الطريق الثوري – الديمقراطي الى الاشتراكية. وكان المقصود في هذه الحالة إمكانات التحرك السياسي والاقتصادي على مراحل من التنظيم البيروقراطي البرجوازي-الاحتكاري لمجالات الحياة الى التنظيم الثوري – الديمقراطي، على قاعدة التفاف الجماهير الشعبية حول المهمات الديمقراطية العامة.
ومن جهة ثانية تنطوي على مغزى تاريخي كبير تجربة أكتوبر المتعلقة بالطريق الآخر، غير السلمي، المسلح للانتقال الى الاشتراكية. فحينما استنفذت سياسيا الإمكانات السلمية لإقامة سلطة السوفيات، دعا (لينين) الحزب البلشفي والجماهير الكادحة الى الانتفاضة المسلحة. ولم يُقحِم لينين هذا الشكل النضالي على الحزب والجماهير، بل أن الجماهير كانت في ذلك الوقت قد اقتنعت من خلال تجربتها السياسية بأنه يستحيل من خلال الإصلاحات الديمقراطية – البرجوازية والاتفاقات مع البرجوازية إيجاد سبيل “أسهل” للخروج من الأزمة البنيوية الشاملة التي كانت تعتمل في مختلف جوانب المجتمع والاقتصاد الروسي آنذاك. لقد وصلت الجماهير الشعبية الى النضال في سبيل الاشتراكية من خلال النضال في سبيل المطالب الديمقراطية وتلبية حاجاتها المباشرة. وهكذا كانت آلية قيام الجماهير نفسها بالاختيار السياسي للطريق الجديد للتطور الاجتماعي. وجرت الانتفاضة المسلحة في (بتروغراد) بدون دماء تقريبا بفضل تفوق القوى الثورية.
وفي كتابه الهام: (من هم “ أصدقاء الشعب “ وكيف يكافحون ضد الاشتراكيين الديمقراطيين؟) لخص (لينين) الموقف من أشكال النضال وتكتيكاته بعبارات بسيطة وواضحة وذات مغزى عميق في الوقت ذاته حين قال: “لا يمكن إعطاء شعار النضال دون دراسة كل شكل من أشكال هذا النضال بكل تفاصيله، ودون التتبع خطوة فخطوة متى ينتقل من شكل الى شكل آخر، كي نعرف في كل لحظة محددة أن نقرر الوضع من دون أن نغفل الطابع العام للنضال وهدفه الإجمالي: القضاء التام والنهائي على كل استغلال وكل اضطهاد”.
لقد كانت المهمة الحاسمة هي صياغة برنامج سياسي واضح لكي يمكن ضمان وحدة الغالبية الشعبية وانخراطها في الثورة. وكان من الواجب تقديم مقولات المادية التاريخية والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية بلغة بسيطة ومفهومة في بلاد كانت تعاني من أمية كبيرة. وقد نجح البلاشفة في إيجاد كلمات بسيطة مفهومة طرحوا من خلالها جوهر المطالب الاجتماعية والديمقراطية ومصالح الجماهير.
وكانت هذه الكلمات بالنسبة لروسيا ذلك العصر هي ثلاث كلمات:
- السلم الذي كانت تتطلع له بلاد عذبتها الحرب؛
- والخبز الذي كان النقص فيه يؤدي الى مجاعة تطوق عنق البلاد من أدناها الى أقصاها؛
- والأرض التي لم يكن الفلاحون ليستطيعوا أن يتصوروا العيش بدونها.
إن عام 1917 العاصف والمجيد خلق ذخيرة من الخبرة الملموسة ذات المغزى العالمي الشامل والقابلة للتطبيق. و(لينين) بوصفة ماديا/جدليا/تاريخيا أصرّ على أن يقيّم الشيوعيون بعناية الوضع الملموس في بلدانهم المختلفة. ولكنه بالمقابل انتقد بحدّة، أيضا، أولئك الذين سيشرعون بالثورة انطلاقا من “وصفة جاهزة”.