تحتل موضوعة الانتقال  Transitionموقعا مهما في الادبيات المنشغلة بمشاكل البلدان التي لديها العديد من التجارب، في ما يخص شكل الدولة الشديد المركزية والطبيعة الدكتاتورية أو الاستبدادية وكيفية الانتقال منها الى نظام جديد وديمقراطي وما هي شروط ذلك.

في دراسة انجزتها عام 2019 بعنوان: (عمليات الانتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي – بعض اشكاليات النظرية والممارسة) تابعت في هذا العمل عمليات الانتقال في 24 بلدا موزعين على قارات أربع. وقد اتاحت لي هذه المحاولة بلورة استنتاج محدد هو انه لا توجد وصفة ناجزة أولا، وتتنوع اشكال الانتقال متمثلة بما يلي:

  1. خيار الانتقال نحو الديمقراطية متفاوض عليه.
  • فمثلا كان الانتقال في بولندا ثمرة للتفاوض بين النظام الحاكم والمعارضة، وتحقيق الانتقال السلمي وإقامة نظام سياسي ديمقراطي.
  • او انتقال البلد من نظام الحزب الوحيد السلطوي إلى ملكية دستورية برلمانية (اسبانيا نموذجا).
  • او المدخل المؤسسي/ التوافق مع المؤسسة العسكرية (البرازيل) فقد بدأ التحول نحو الديمقراطية في رحم الديكتاتورية واستغرق الفترة في ما بين عامي 1974- 1985 حيث توصلت القوى الديمقراطية في هذا البلد إلى ضرورة تأسيس توافق مع المؤسسة العسكرية على انطلاق عملية الانتقال الديمقراطي، عبر إصدار العفو على المعتقلين السياسيين و تنظيم انتخابات نزيهة، حيث تمكنت من سن قوانين العفو عن المعارضة، وتم تغيير نظام الاقتراع من أجل تكريس التعددية الحزبية بدل الثنائية .وقد أشرفت المؤسسة العسكرية على تجربة الانتقال وضمنت انفتاح النظام السياسي وتنظيم الانتخابات، واحترام نتائج صناديق الاقتراع.
  1. خيار الانتقال الديمقراطي المار بمسار معقد وشاق، الامر الذي استدعى تضافر جهود المسؤولين العسكريين والفاعلين السياسيين والمدنيين بخلقهم لثقافة سياسية ودستور ملائم وتكوين مجتمع مدني قوي وطبقة سياسية لها مصداقية ونهج اقتصادي حر (البرتغال).
  2. خيار الانتقال الديمقراطي المعمد بالدم (رومانيا) والحرب الاثنية (النموذج اليوغسلافي). عملية الانتقال الديمقراطي عادة ما تم تحجيمها من قبل القوى المتطرفة التي راهنت على خيار الحرب وحل المشكلات باستخدام السلاح.
  3. خيار التحول عبر تحييد القاعدة العسكرية غير الهرمية للنظام القديم، وبالتالي إبعاد القوات المسلحة عن نظام كان يحتضر وتسهيل الطريق لنقل السلطة الى المدنيين (اليونان). أي خيار التوصل إلى حل سياسي على حساب العناصر العسكرية.
  4. خيار لعبت فيه العوامل الخارجية أدوارا متعددة في عمليات الانتقال، سواء على الصعيد السياسي، أو المالي، أو المعنوى. ففي دول شرق أوروبا، ووسط آسيا، وغرب البلقان، كان أبرز اللاعبين الخارجيين هم: الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وروسيا الاتحادية. وكانت سياسات كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قائمة على تشجيع “الإصلاح الديمقراطي”، وتأييد اللاعبين المستقلين عن الحكومات.

بالمقابل لا يمكن تجاهل التأثير الفعّال الذي مارسته سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه موضوع الانتقال الديمقراطي في بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى؛ فلقد كان لافتا جدا حرصها الكبير على أن يتم ذلك الانتقال سريعا، وأن يسلّم الجيش السلطة إلى المدنيين، ثم كان حرصها أكبر على أن تسدي دعما وإسنادا للنخب “الديمقراطية” التي وصلت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.

يقود ذلك إلى سؤال حول ما يبدو وكأنه مفارقة في موقف الولايات المتحدة من جدلية الفاشية والديمقراطية في أمريكا اللاتينية. فما الذي تغيَّر حتى أصبحت واشنطن شديدة العناية بتحقيق الديمقراطية في هذه البلدان بعد عقود طويلة من دعمها المادي والسياسي والعسكري للنظم الفاشية والدكتاتورية في وجه الحركة الديمقراطية واليسار والثورة المسلحة في هذه القارة !؟

  1. خيار انتقال ديمقراطي معاق او لم يصل الى نهاياته المرجوة. ففي أية تجربة انتقالية توجد احتمالات لحدوث انتكاسة ديمقراطية لا تقل بحال من الأحوال عن احتمالات تحقيق انتعاشة ديمقراطية. وبالملموس في أذربيجان وبيلاروسيا، توقفت مسيرة الانتقال في مرحلة مبكرة، وسرعان ما عادت الأنظمة القديمة، وتركزت السلطات في قبضتها مرة أخرى. وفي جورجيا، وأوكرانيا، وقيرغيزستان، أعطت الاحتجاجات في أعوام 2003 ، و 2004 ، و 2005 فرصا أخرى للانتقال الديمقراطي. الا أنه كانت ثمة مخاوف في جورجيا من تركز السلطات في يد الرئيسو أجهزة الدولة المستبدة. وفي عام 2010 انتخب الأوكرانيون المصابون بخيبة الأمل مرشح ما قبل التغيير. عاد رئيس قيرغيزستان في فترة ما قبل الثورة إلى حكمه المستبد، قبل أن تتم الإطاحة به مجددا.

وابرز الخلاصات والدروس من هذه التوليفة من الخيارات ما يلي:

الخلاصة الأولى: لا توجد وصفات جاهزة دوليا على مستوى الانتقال الديمقراطي. وتعني هذه الملاحظة أنه لا توجد طريقة واحدة للانتقال إلى الديمقراطية، فالتجارب الملموسة بينت أن خبرات وتجارب الانتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي جرت من خلال طرق عديدة وآليات مختلفة، كان لكل منها ظروف وسمات وديناميات خاصة. وغالبا ما يؤثر أسلوب الانتقال على نوعية النظام الديمقراطي الوليد وحدود قدرته على الاستمرار والمطاولة في مواجهة تحديات الانتقال.

الخلاصة الثانية: ان الديمقراطية لا تُفرض من الخارج، كما أنها لا تُصدر ولا تُستورد، بل لابد وأن تنمو وتتطور في الداخل وتكون مرتبطة بالتطورات والخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدول والمجتمعات.

الخلاصة الثالثة: عملية الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي وترسيخه على النحو الذى يضمن استمراريته واستقراره هي في الأغلب الأعم عملية معقدة، ديناميكية، متاحة لكافة السيناريوهات، وتستغرق فترة زمنية طويلة نسبيا. ولذلك فإن مجرد الانتقال من نظام حكم غير ديمقراطي/تسلطي/ديكتاتوري لا تعنى بالضرورة قيام نظام ديمقراطي راسخ ومستقر، حيث أن ذلك له شروط ومتطلبات عديدة لابد من توفيرها وإنضاجها.

الخلاصة الرابعة: الانتقال الديمقراطي يتطلب إرادة حقيقة أو ما يطلق عليه بإرادة الانتقال. وهذا لن يتأتى إلا من خلال:

- ترسيخ ثقافة المشاركة والاختلاف؛

- إصلاح البنى الفكرية اولا، ومأسسة المؤسسات ودمقرطتها ثانيا.

الخلاصة الخامسة: الانتقال الديمقراطي يتطلب مشروع مجتمعي وأحزاب سياسية فاعلة وذات مصداقية تستقطب انخراط أوسع للناس في هذه العملية، وأن التناوب او تداول السلطة لا يشكل إلا أداة وليس غاية في حد ذاته.

الخلاصة السادسة: الانتخابات الحرة والنزيهة تمثل أحد الآليات الرئيسة للنظام الديمقراطي، إلا أنها لا تكفى بمفردها لقيام ديمقراطية حقيقية، فالأخيرة تستوجب توفر أسس وعناصر عديدة لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها.

الخلاصة السابعة: المصالحة هدف لا يمكن تجنبه لأجل توحيد المجتمع المعني حيال المستقبل، وبناء الديمقراطية دونما استبعاد لأى طرف باستثناء من تلطخت اياديهم. فقد نختلف على الماضي مع أولئك الذين دعموا الدكتاتورية، ولكننا لا نملك ترف عدم الاتفاق على الحاضر والمستقبل.

الخلاصة الثامنة: إن إلحاق الهزيمة بنظام دكتاتوري أو سلطوي لا يعني الوصول إلى الديموقراطية. ففي الكثير من بلدان العالم تمت الاطاحة بنظم دكتاتورية أو سلطوية، لكنها انحدرت إلى الحرب الأهلية، أو انضمت إلى خانة الدول المنهارة أو الفاشلة، أو استُبدلت بدكتاتورية أخرى.

الخلاصة التاسعة: إن طريقة أفول النظام السابق والتحرّك نحو عملية الانتقال مهمة أيضاً. فحيث يظهر التغيير بسبب قرار من داخل النظام نفسه (كما في حالة البرازيل والبرتغال وإسبانيا واليونان ومعظم بلدان اوربا الشرقية) يحتمل أن تكون عملية الانتقال أكثر سلاسة وديمومة.

الخلاصة العاشرة والاخيرة: في التجارب الانتقالية وخاصة بالنسبة للأنظمة الشمولية والتسلطية لا وجود لتغيير ديمقراطي، دون مخاطر وأثمان، وهذا يختلف من تجربة لأخرى، ومن مرحلة لأخرى، غير انه من الضروري التشديد على أن مخاطر الانتقال الديمقراطي لن تكون أعلى تكلفة من بقاء النظام الشمولي والدكتاتوري جاثما على صدور الناس.

عرض مقالات: