ولد فريدريك إنجلس في 28 تشرين الثاني 1820، وتوفي في 5 آب 1895.

«لو لم يكن إنجلس الرفيق الدائم لماركس في نضالات القرن التاسع عشر الثورية، فلا شك أنه كان سيذكر كأحد أبرز العلماء والفلاسفة في ذلك القرن. إن الإهمال التام الذي لقيه إنجلس من علماء العصر الفيكتوري برهان ومفارقة مريرة على صحة آرائه في ما يتعلق بالعلاقة بين السياسة والإيديولوجيا» - جون بيرنال (1936) عالم بلورات في جامعة كامبريدج.

«يمكن إنجاز تشخيص ديالكتيكي للعلم التقني المعاصر، ينقل التركيز من الألبومين الاصطناعي بوصفه (مادة حيّة) كما ناقشه إنجلس، إلى البحث المعاصر في الخلايا الاصطناعية، كما تنبأ به إنجلس» - هاب زوارت، الباحث والمؤلف في قسم الفلسفة بجامعة إيراسموس روتردام، هولندا، في بحث جديد له في المجلة العالمية «العلم والمجتمع» (عدد تموز 2020).

إضافة إلى نضاله السياسي، كان إنجلس دائماً دارساً مجتهداً للعلوم الطبيعية، ومواكباً لأحدث التطورات العلمية، ومطلعاً على العلوم الطبيعية والهندسية. أصبحت أعماله في هذا المجال حجر الزاوية في التاريخ الماركسي للعلم عموماً، والعلوم الطبيعية والهندسية خصوصاً، تكثر فيها الإشارات إلى مئات المؤلفين وأعمالهم في مختلف فروع العلوم.

ألّف عدداً من كلاسيكيات الماركسية التي ساهم فيها بتأسيس المنهج المادي الديالكتيكي وتطبيقه للتفسير والتغيير في الطبيعة والمجتمع والفكر، مثل: «ضد دوهرينغ» و«ديالكتيك الطبيعة» و«لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية»، و«الاشتراكية العلمية والطوباية». فضلاً عن مشاركته لماركس بالتأليف المشترك لأعمال كـ “البيان الشيوعي” و”الآيديولوجيا الألمانية”.

ديالكتيك العلم والمجتمع

أظهر إنجلس وشدد على وجود صلة وثيقة بين العلم والاحتياجات المادية للمجتمع. فعندما تبرز حاجة تقنية في المجتمع، فإن هذه الحاجة تساهم بتقدم العلم أكثر من عشرات الجامعات، وتمكين العلم من تخليص نفسه من المقدمات الخاطئة والحصول على أساس سليم لمزيد من التطوير. وشدد على وحدة العلوم، والحاجة إلى إزالة الانقسامات بين العلم والتكنولوجيا، وبين فروع العلوم الطبيعية، ولا سيما بين الفيزياء والكيمياء، والكيمياء والبيولوجيا، وغيرها.

من تنبؤات إنجلس العلمية

في هذا الخصوص، نستفيد من الآراء التي تكمل بعضها، لكل من عالم البلورات البريطاني جون ديزموند بيرنال (1936) الذي ارتبط اسمه بالعمل على تركيب المعادن والهرمونات والفيتامينات والبروتينات، وعالم الهندسة الكيميائية السوفييتي البروفسور سايمون ياكوفليفيتش بلوتكين (1970)، الذي صادف أن كتب كلّ منهما مقالاً بالعنوان نفسه «إنجلس والعلم»:

خلافاً لعلماء بارزين، مثل كلاوزيوس وطومسون، جادل إنجلس بأن ما يسمى بنظرية «الموت الحراري للكون» كانت غير علمية وتتعارض تماماً مع قانون حفظ الطاقة وتحولها، مشدداً على أن هذا القانون أحد أسس العلوم الطبيعية التي استند إليها المنهج المادي الديالكتيكي تجاه الطبيعة، وأنه «قانون ثابت ومطلق للطبيعة». أثبتت الاكتشافات العلمية اللاحقة بشكل كامل صحة تقييم إنجلس لقانون الحركة الأساسي العظيم هذا.

وفي مجال بنية المادة، وباستخدام منهج المادية الديالكتيكية، طرح إنجلس فكرة أن الذرة لها بنية معقدة، ولا ينبغي اعتبارها «شيئاً بسيطاً». أكدت الاكتشافات اللاحقة للفيزيائيين بالطبع وجود بنية داخلية معقدة للذرة، وأنها ليست أصغر جسيم مادي. وأَولى إنجلس أهمية كبيرة لقانون دالتون في النسب المتعددة multiple proportions، معتبراً أنه مفتاح مهم للدراسة الذرية.

على الرغم من أنه لم يكن فيزيائياً ولا كيميائياً، إلا أن إنجلس تنبأ ببراعة بالخطوط العريضة العامة لنظرية التفكك في المحاليل الكهربائية (الكهارل) electrolytic dissociation. فافترض بوضوح أن ما يشكل النقطة الرئيسة لفرضية أرينوس Arrhenius، أي: إن الكهارل في المحاليل تتفكك لتكوين شوارد (أيونات)، هو أمر يحدث بغض النظر عما إذا كانت تخضع، أو لا تخضع، لعمل تيار كهربائي.

افترض إنجلس الأصل الكيميائي للحياة كفترة محددة في تطور كوكبنا، في وقت كان فيه أنصار هذه الفرضية قليلون جداً، مقارنة مع عصرنا اليوم، حيث تحولت هذه الفرضية إلى نظرية مثبتة تجريبياً في المخبر بفضل أعمال علماء تأثروا تحديداً بإنجلس (مثل: أوبارين، وهالدن وغيرهما). أما الأطروحة البديلة الوحيدة التي كانت سائدة في الوسط العلمي لدى معاصري إنجلس فهي أن الحياة كانت موجودة دائماً وأزلياً.

وواجه إنجلس السلطة والهيبة العلمية السائدة لأنصار هذه النظرة ممثلة في ليبيغ وهلمهولتز. فقد قال ليبيغ مثلاً: «لماذا لا تكون الحياة المنظمة قديمة وأزلية، مثل المادة نفسها؟ لماذا لا يكون من السهل تخيل هذا، مثل خلود الكربون ومركباته؟». فردّ عليه إنجلس بما يلي: «(أ) هل الكربون بسيط؟ إذا لم يكن كذلك، فهو على هذا النحو ليس أزلياً ولا أبدياً. (ب) تكون مركبات الكربون خالدة فقط بمعنى أنه في ظل هذه الظروف من الخليط ودرجة الحرارة والضغط وما إلى ذلك، يمكن إعادة إنتاجها. ومع ذلك، فإن مركبات الكربون الأبسط، مثل: ثاني أوكسيد الكربون CO2 والميثان CH4، هي فقط التي يمكن أن تكون أبدية لأنها يمكن أن تكون موجودة في جميع الأوقات، وإلى درجة ما في جميع الأماكن، ويتم إنتاجها وتحللها إلى عناصرها».

كانت النظرة الشعبية السائدة في القرن التاسع عشر لا تزال هي نظرة النشأة الاستثنائية للإنسان. وكانت سائدة بشكل أو بآخر حتى في أفضل عقول العلم الطبيعي آنذاك، مثل: داروين وهكسلي وهايكل، بمعنى أن الإنسان «استثنائي» رغم أنه «مجرد قرد متفوق يتميز بدماغ أكبر»، ودماغه مجرد نتاج للتطور البيولوجي، مثل تطور أجنحة الخفاش أو خرطوم الفيل مثلاً.

أما إنجلس فعمل على نظرية أن الإنسان لا يوجد بمعزل عن المجتمع، وهو في الحقيقة نتاج المجتمع الذي أنتجه هذا الإنسان نفسه. أصبح البشر، بدخولهم في علاقات إنتاجية مع بعضهم، عن طريق التبادل الأول للطعام، وبنقل السمات الاجتماعية عبر العائلة، مختلفين كيفياً (نوعياً) عن الحيوانات الأخرى. تناول إنجلس هذه الموضوعات في مقاله الفائق الأهمية (وغير المكتمل) بعنوان «دور العمل في تحوّل القرد إلى إنسان»، الذي نشر بعد وفاته عام 1895 بالألمانية، ثم بعد ذلك بفترة طويلة عام 1925 بالإنكليزية ضمن مواد مخطوط «ديالكتيك الطبيعة»، وكذلك في أحد أكثر أعماله تألقاً «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة».

قدّر إنجلس عالياً أهمية مجموعة العائلة الأمومية أو العشيرة، التي أظهر الرحالة والمبشرون وجودهم بين جميع الشعوب البدائية، قبل فترة طويلة من الاعتراف بها من قبل علماء الأنثروبولوجيا الرسميين. وبمعرفته التاريخية الواسعة، ربط هذه الحقائق بتاريخ اليونان وروما القديمة، وأظهر أولاً وقبل كل شيء ما كانت عليه الأسرة الأمومية في مرحلة بدائية معينة من الإنتاج، وثانياً: كيف تحولت إلى الأسرة الأبوية، وأخيراً الأسرة الصغيرة الحديثة، تحت تأثير تطور الملكية الخاصة وأساليب الإنتاج. وجاء التأكيد على أفكار إنجلس الأصلية من كل الأعمال والاكتشافات الحديثة لعلماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين. لم تكن دراسات إنجلس الأنثروبولوجية مجرد تمارين أكاديمية: لقد كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمهمة العظيمة التي تقاسمها مع ماركس، وهي تحويل المجتمع الرأسمالي إلى اشتراكي.

عظيمان ومتواضعان

إن حب إنجلس الكبير واحترامه لصديقه ورفيقه ماركس، وكذلك تواضعه الاستثنائي، جعله في مناسبات عديدة يعلن أن ماركس هو الذي يحتل مركز الأهمية الأول في فريقهم. فكتب مثلاً: «طوال حياتي لم أفعل سوى الذي يجدر أن أفعله– أن ألعب دور العازف الثاني، وأعتقد أنني أديت عملي بشكل جيد. وبالفعل كنت سعيداً للعب دور العازف الثاني لشخص مميز مثل ماركس». ولكن ماركس الذي لا يقلّ عنه تواضعاً وعظمة، قال في إنجلس: «إنه موسوعة تمشي على قدمين، يستطيع العمل في أي وقت من النهار أو الليل، بعد تناول وجبة، أو على معدة فارغة، يكتب بسرعة، وهو خاطف الذكاء مثل الشيطان». وكتب لينين: «من المستحيل فهم الماركسية.. أو تقديم وصف كامل لها دون الإلمام بجميع أطروحات إنجلس».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب سوري

صحيفة “قاسيون” السورية – 30 تشرين الثاني 2020