تكمن أهمية ماركس في المنهج الذي اعتمده في التحليل والاستنتاج. فقد صاغ ماركس نظرية لتحليل الأنظمة غطت النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لكل أساليب الانتاج التي درسها "الاقتصاد السياسي". وقد أسس هذا المنهج لتحول نوعي في نمط التفكير الذي راح ينطلق من وضع ملموس. وهذا هو جوهر مقولة ماركس العميقة من أنه "ليس وعي الناس ما يحدد وجودهم، بل وجودهم هو الذي يحدد وعيهم". وهذا يعني أن ماركس أسس لمنطق مادي ديالكتيكي قائم على أولوية الواقع على الوعي.

جوانب رئيسية في المنهج

تتألف منهجية ماركس من جوانب رئيسية ثلاثة هي: نظرية قيمة العمل، والنظرية المادية في التاريخ، والنظرية السياسية للصراع الطبقي. وهذه أدوات للتحليل، جرى تطويرها وتكييفها من جانب الاشتراكيين لتفسر كيف أن الطبقة العاملة تستغل في ظل الرأسمالية، وكيف أن الاشتراكية ستكون تحريراً لهذه الطبقة. وغني عن القول إن صحة نظريات ماركس مستقلة عن ماركس الانسان، ومع ذلك فان الانتقادات الموجهة لماركس حدثت بسبب اساءة تفسير وتشويه الماركسية التي ظهرت في القرن العشرين.

وفي الماركسية نجد تطبيقاً لنظرية الأنظمة التي لا توفر نظرة بديلة لأسلوب الانتاج الرأسمالي حسب، وانما، أيضاً، شرط المنهج الذي يحفزنا، على نحو منظوم، على دراسة العملية الثورية المرتبطة بالتقدم الاجتماعي، ومن هنا نصبح على دراية بالماضي والحاضر والمستقبل.

وتتداخل الجوانب الرئيسية الثلاثة في المنهج الماركسي مع بعضها. فنظرية قيمة العمل تعرض القوانين الاقتصادية التي تحدد ضوابط انتاج السلعة في ظل الرأسمالية. ويحدد الفهم المادي للتاريخ العلاقات الانتاجية لانتاج السلعة، والعمل المأجور، والرأسمال في اطار التاريخ. ويوفر الصراع الطبقي اطاراً لتفسير التقدم الاجتماعي من ناحية العملية الثورية.

وهكذا يرفض الماركسي العقيدة الجامدة، ويتبنى التفكير النقدي، ويتساءل عن كل شيء، بما في ذلك العقل الماركسي نفسه. ومعلوم أن السمة الواضحة للمجتمع الرأسمالي هي أننا نعيش في هوة متواصلة بين الطموحات والآمال والنتائج وواقع الحياة.

فما الذي نفعله من ثم ؟ وكيف نتصرف في هذه الفوضى ؟

تقدم الماركسية طريقة تساؤل تؤدي، مباشرة، الى الحقائق الأكثر أهمية. فهي تطرح افتراض أنه لكي نفهم المجتمع – أي كيف يعمل، ما هي مشكلاته، وما هي العوامل الرئيسية التي تقف وراء تطوره – لابد من بحث جوانب أساسية.

والأكثر أهمية هو أن نفهم كيف يحافظ المجتمع على وجوده. ويتعين علينا أن نجيب على سؤال: كيف ينتج هذا المجتمع الثروة، وكيف يوزعها، ومن الذين يحصلون على ماذا، وكيف يحصلون ؟

هذا يعني أنه يتعين علينا تشخيص العلاقات الانتاجية للمجتمع، حيث الطبقات المعنية لديها مصالح مختلفة ارتباطا بالانتاج وملكية الأجهزة والموارد الانتاجية. وتتمتع بأهمية حاسمة مسألة من الذي يتحكم بمراكز اتخاذ القرار، وهي، في ظل الرأسمالية، ماكنة الدولة وقوى السلطة التي تضمن تنفيذ القرارات. كما تتمتع بأهمية خاصة علاقات المجتمع الخارجية ارتباطاً بالمجموعات السياسية الأخرى والعوامل الجغرافية، وأفكار المجتمع وتاريخه. وتكشف توليفة هذه العوامل كلها عن التوترات والصراعات الداخلية للمصالح التي توجد بين الطبقات.

ويجادل ماركس في أن طريقته العلمية تتوغل الى ما تحت سطح العلاقات الاجتماعية الرأسمالية لتكشف حفرياتها الداخلية. وتكمن طريقة ماركس في البحث العلمي في الكشف عن آليات الاستغلال الأساسية الواقعية غير المرصودة في الغالب، وهو ما يتناقض مع الاعتبارات "الوضعية" للعلم التي تفترض أن العلم يمكن أن يتعامل، فقط، مع الظواهر المرصودة تجريبياً.

وهذا يعني، بايجاز، أن إرث ماركس يتمثل في أنه أبدع واستخدم منهجية كشفت عن القوة الدافعة للتغييرات في الظروف الاجتماعية وعلاقات الانتاج واعادة انتاج الحياة الواقعية اعتماداً على نتائج الصراع الطبقي. وهكذا اجتازت الماركسية اختبار الزمن، وهي تستخدم، على نطاق واسع، في المؤسسة الأكاديمية، وكل العلاقات التي تعنى بعلم الفلسفة.

وعلى سبيل المثال فان "الطريقة العلمية" قبل ماركس لم تواجه التحدي، على الرغم من أن معظم العلماء، كانوا عبيد أجور، شأننا جميعاً، نؤدي العمل الفكري المغترب لصالح الأسياد بدون طرح أسئلة آيديولوجية. أما اليوم فان الناس في سائر مجالات العمل يتساءلون: "الى جانب من تقفون ؟".

وفي سياق بحثنا في المنهجية التي تبناها ماركس، وقبل أن نفسر مصطلحات أساسية مثل "أسلوب الانتاج، والشكل الاجتماعي، والمجرد والملموس"، دعونا نتأمل، أولا، رؤية ماركس لدراسة التاريخ: أي المادية التاريخية، التي نجد تعبيراً وجيزاً عنها في مقدمته لـ (نقد الاقتصاد السياسي) – 1859.

فقد أدرك ماركس خلو المادية القديمة من المنطق وعدم اكتمالها وطابعها الوحيد الجانب، ورأى أنه يجب "جعل علم المجتمع منسجماً مع الأساس المادي، واعادة بنائه استناداً الى هذا الأساس". واذا كانت المادية، بوجه عام، تفسر الوعي بالكائن وليس العكس، فهي تتطلب عند تطبيقها على الحياة الاجتماعية للانسانية تفسير الوعي الاجتماعي بالكائن الاجتماعي. ويقول ماركس في (رأس المال) إن "التكنولوجيا تبرز أسلوب عمل الانسان تجاه الطبيعة، أي العملية المباشرة لانتاج حياته، وبالتالي الظروف الاجتماعية لحياته والأفكار والمفاهيم التي تنجم عن هذه الظروف". وقدم ماركس صيغة كاملة عن الموضوعات الأساسية في تطبيقها على المجتمع البشري وتاريخه في مقدمة (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)، اذ قال "إن الناس اثناء الانتاج الاجتماعي لحياتهم يقيمون في ما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن ارادتهم. وتطابق علاقات الانتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية".

واذا ما عدنا الى انجاز ماركس الرئيسي، أي (رأس المال) نستطيع أن نرى لماذا أخذ ماركس على عاتقه دراسة "البنية الاقتصادية" للمجتمع الرأسمالي وليس الكيفية. غير أنه من خلال كتابات ماركس، وخصوصاً نقده لأسلافه في ميدان الاقتصاد السياسي، يمكننا أن نميز ثلاثة مبادىء منهجية رئيسية.

الأول هو الفرق بين المقولة العامة والمقررة، اذ الأولى تنطبق على المجتمعات، أو على نحو أكثر تحديداً، على النشاط الاقتصادي عموماً، والثانية على "الأساليب" أو "الأشكال الاجتماعية" للانتاج، المحددة تاريخياً. وهكذا فان الرأسمالية تعتبر شكلاً اجتماعياً خاصاً للانتاج، حيث تنطبق عليه المقولات المقررة المعينة. وفي هذا السياق ينتقد ماركس، على سبيل المثال، سميث وريكاردو، على تطبيق المقولات "الرأسمالية" المقررة على التشكيلات الاجتماعية (السابقة)، وبالتالي يشوشان فهم خصوصيتها.

ويعتبر مفهوم "الشكل الاجتماعي"، في الواقع، مفتاحاً لفهم عمل ماركس. ففي الرأسمالية يتخذ العمل البشري ومنتجاته بالضرورة "شكل القيمة"، أي النقود، وهذا الشكل يخلق حياة خاصة بحيث أنه يتحكم بالمحتوى (حتى وان بقي الأخير – أي العمل والانتاج والمنتج – ضرورة). ويصبح الشكل (النقود) ذات وموضوع أسلوب الانتاج هذا. ومن هنا ينطلق تحديد ماركس الشهير للاغتراب، وصنمية النقود: أصبحت العلاقات الانسانية علاقات بين الأشياء.

ويقودنا هذا الى المبدأ المنهجي الثاني: التفسير والنقد الملازم. فبينما يتخذ "النقد المجرد" موقفاً مفروضاً، خارجياً بالنسبة لموضوع البحث، يتخذ النقد الملازم موقفه من داخل موضوع البحث، مجسداً تناقضاته الداخلية. وترى منهجية النقد هذه أن موضوع بحثها انعكاسي، وأن ما يجري بحثه هو الواقع الاجتماعي. وبالتالي فان (رأس المال) لماركس هو تحليل ونقد ملازم للواقع الاجتماعي (الرأسمالية)، وكذلك للتعبير النظري عن العلاقات الاجتماعية الرأسمالية في خطاب الاقتصاد السياسي. وهذه الناحية من منهجية ماركس مشار اليها في العنوان الفرعي لـ (رأس المال)، أي (نقد الاقتصاد السياسي)، وكذلك من خلال مصطلح "النقد" الذي يظهر في الكثير من العناوين الأخرى لكتابات ماركس.

أما المبدأ المنهجي الثالث فهو الحاجة الى تسلسل التحديدات في اطار طائفة من المقولات المقررة، على الرغم من أن هذا ينطبق على المقولات العامة التي تبقى فاعلة على امتداد المقولات المقررة. وطالما أن أسلوب الانتاج الرأسمالي يظهر في عرض ماركس باعتباره وحدة عضوية فان "معرفته لابد أن تتخذ شكل نظام مقولات ذات صلة أكثر منها سلسلة من أبحاث غير مترابطة. وعلى نحو أكثر تحديداً يعرض ماركس نظام مقولات متراتب من المجرد الى الملموس والمعقد. وهكذا فانه في مجرى (رأس المال) ننتقل، تدريجياً، الى مستويات أكثر ملموسية دائما من التجريد، وكل مستوى منها يفسر ويكون جلياً عبر "تحول" مفاهيمي (تحول سعر القيمة الشهير هو مجرد واحد من تحولات كثيرة، بينما يمكن للمرء أن يطبق عمليات كمية في مستوى محدد من التجريب، ويرتاب بعض الباحثين في ما اذا كان تطبيقها بين مستويات التجريد منطقياً).

ويتفق معظم الباحثين على أن منهج ماركس في (رأس المال) هو، في الواقع، اتجاه في مراحل من المقولات التجريدية الى الملموسة. غير أن هناك خلافاً بشأن حالة كل مستوى من المستويات، وكذلك بشأن أسلوب التقدم من مستوى الى آخر. ولفترة طويلة كان ينظر الى المنهج باعتباره مقاربة تاريخية – منطقية (وهو تفسير عممه انجلز)، أو كمنهج للتقريب المتتابع حيث يبدأ المرء بافتراضات تبسيطية، بينما ركزت تفسيرات أخرى على الديالكتيك الذي تبناه ماركس.

ويتعين علينا أن نؤكد أن عرض (رأس المال) ليس حجة استدلالية، ولا يعني الاتجاه من المجرد الى الملموس أن الأول ليس تجريبياً. ويبدو أن الجزء الثالث يتميز بمستوى تجريبي، وأن الاقتصاديين، عموماً، شعروا بالارتياح وهم يعلقون على هذا، أكثر مما كان عليه الحال في الجزءين الأول والثاني. ومع ذلك فان الجزء الأول "التجريدي" مثقل، غالباً، بتوصيفات واشارات تجريبية مفصلة للتقارير الاحصائية. كيف نعلل هذا ؟ لنتأمل المقولات التجريدية للجزء الأول من (رأس المال)، الذي يشير الى العلاقات في اطار أسلوب مقرر تاريخياً، أي أسلوب الانتاج الرأسمالي. ولنأخذ، على سبيل المثال "فائض القيمة". فالتعبيرات التجريبية لمثل هذه المقولة قد تكون مرئية (طول يوم العمل على سبيل المثال) الى الحد الذي يكون فيه التطور المقرر الى الملموس تعبيراً بسيطاً عن تلك المقولة التجريدية. وفي ما يتعلق بمنهج ماركس هناك، كما أسلفنا، ثلاثة روافد في التفسير، وظل المدى الذي يمكن أن يعتبر فيه ماركس وريثاً لهيغل، على الدوام، مسألة مثيرة للجدل. وقد أسهم عاملان في هذا الجدل. العامل الأول هو التأخر في ظهور طبعة عمل ماركس سواء في الأصل الألماني أو في الترجمة الانجليزية. أما العامل الثاني فيتمثل في أن ماركس لم يكن، خلال كتاباته لفترة تزيد على 40 عاما، ثابتاً في تقييمه لديالكتيك هيغل (فقد أعاد، في الواقع، قراءة أعمال هيغل مرات عدة). وبالنسبة لبعض الكتاب (ألتوسير على سبيل المثال – 1965) كانت هناك، على ما يبدو، "استراحة معرفية" في عمل ماركس. وفي وقت لاحق من حياته يفترض أنه اتخذ فرصة استراحة جذرية من التوجه الهيغلي الانساني الأنثروبولوجي في سنوات شبابه.

لكن ماركس كتب في (رأس المال) يقول إن "هيغل يرى أن حركة الفكر، التي يشخصها ويطلق عليها اسم الفكرة، هي الاله (الخالق، الصانع) .. أما انا أرى العكس: حركة الفكر ليست سوى انعكاس لحركة المادة منقولة الى دماغ الانسان ومتحولة فيه".

وكان ماركس وانجلز يريان في ديالكتيك هيغل اوسع وأعمق مذهب من مذاهب التطور بما حققته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. وكانت كل صيغة أخرى لمبدأ التطور تتراءى لهما وحيدة الجانب، فقيرة المضمون، تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور (الذي يتميز أحياناً بقفزات وكوارث وثورات) في الطبيعة والمجتمع.

وكتب انجلز في ((أنتي دوهرنغ) يقول "إننا، كلينا، ماركس وأنا، كنا وحدنا تقريباً اللذين عملا لانقاذ الديالكتيك الواعي (من المثالية بما فيها الهيغلية نفسها) وذلك بادخاله في المفهوم المادي للطبيعة التي هي محك الاختبار. وبامكاننا أن نضيف أن علم الطبيعة الحديث قد أغنى، الى اقصى حد، مستلزمات هذا الاختبار يومياً، وبذلك أثبتت هذه العلوم أن الطبيعة تعمل، في نهاية المطاف، على نحو ديالكتيكي لا على نحو ميتافيزيقي".

وهناك ما يقودنا الى أن منهج ونظرية ماركس لا يمكن مساواتهما بالمنهج وبالنظرية الماركسية. فقد أرسى ماركس أسسه من أجل تقليد محدد لأساليب بحث منهجية عدة. ومهما اختلفت هذه الأساليب فانها تشترك في الخصائص المنهجية العامة الثلاث التي ذكرت في وقت سابق:

  1. الفرق بين المقولات العامة والمقررة تاريخياً.
  2. منهجية التحليل والنقد الملازم.
  3. تحديد نظام لتراتبات مقولات مقررة ومتداخلة، من أجل الاستيعاب الملموس للواقع التجريبي.

وهذا ما يميز التقليد الماركسي عن المقاربات الأخرى السائدة في المنهجية.

من المجرد الى الملموس

سعى ماركس الى تمييز مقاربته عن مثالية هيغل، مجادلاً بأن تجريداته تعتمد وتتأسس على الملموس. فهذه "التجريدات الواقعية" توجد، ديالكتيكياً، مع الملموس، وهو يقدم مثال تجريد "القيمة التبادلية" التي يمكن أن توجد في العلاقة الديالكتيكية مع العلاقات الاجتماعية الملموسة التي توجد في المجتمع شأن العائلة أو الجماعة أو الدولة.

وفي دفاتر ملاحظاته يواصل ماركس نقده الهجومي لا على مثالية هيغل حسب، وانما، أيضاً، على الفلسفة بوجه عام، ويرى أنها تساوي بين الواقع والوعي. وبالنسبة لماركس فان الفكر هو نتاج الظروف المادية الملموسة. فالفكر لا يوجد مستقلاً عن العالم، وانما هو "نتاج لتحويل الملاحظة والمفهوم الى أفكار".

ويناقش ماركس كيف يمكن للتجريد أن يتحول في العلاقة الى العالم الملموس. فالتجريدات البسيطة قد تظهر لتفترض مسبقاً الواقع الأكثر تعقيداً للعام، ولكنه، في الحقيقة، يجادل بأنها تعبر عن التطور التاريخي للظروف والعلاقات الاجتماعية في أزمنة وأماكن محددة. وهو يبدأ بمناقشة مقولة "التملك"، التي تحمل سمات تجريدية وملموسة، تعكس العلاقات الاجتماعية في لحظة تاريخية معينة. فامتلاك فأس في العصر الحجري يختلف عن الملكية بالمعنى القضائي الحديث. وعلى نحو مماثل فان مقولة "النقود" الموجودة في شكل بسيط قبل وجود "الرأسمال" قد تواصل وجودها في شكلها الأبسط اعتماداً على التطور التاريخي للمجتمع. وذلك يعني أن مقولة النقود ليست، على سبيل المثال، عابرة للتاريخ أو مطلقة، وانما تعبر عن التطور الملموس للظروف الاجتماعية التي تستخدم فيها كمقولة. ويقول ماركس إنه "الى ذلك الحد يتوافق طريق الفكر التجريدي، الذي يتقدم من البسيط الى المركب، مع العملية االتاريخية الواقعية". وهذا، في الواقع، تحذير من استخدام المفاهيم المجردة مثل "النقود" و"التبادل" أو العمل ... الخ في كل الأوقات وعبر كل الأماكن. انها حجة لادراك الأساس المشروط للمفاهيم النظرية قبل تطبيقها في العالم الملموس، أي "التقدم من المجرد الى الملموس".

لقد فهم ماركس التاريخ كشيء يتطور، ويحمل معه بقايا الطرق السابقة للعيش وفهم الحياة. وهكذا فان المجتمع "البرجوازي" الحديث هو "تنظيم الانتاج التاريخي الأكثر تطوراً والأكثر تعقيداً". كما أن مقولاتنا الحديثة، عندما يجري تحليلها، توجد لتشمل بقايا التاريخ، أيضاً، لكنها لا ينبغي أن تطبق على التاريخ بأسره. وهكذا نجد أن نقطة انطلاق ماركس في التحليل هي أسلوب الانتاج السائد في المجتمع (اي الرأسمالي)، وليس ما يجادل بأنها مقولات ثانوية مثل "السكان" أو "ملكية الأرض". وعلى الرغم من أنه قد يبدو منطقياً أن نبدأ بنقطة محددة من الاهتمام (أي السكان أو التعليم العالي أو العلم او القرصنة"، ومن ثم يطور المرء تحليله من هناك، فان ماركس يجادل بأن أسلوب الانتاج (الرأسمالي) يسود، و"يحكم" الجسد والعقل.

المنهجية الفلسفية في الغروندريسه

هناك جدل واسع حول قيمة أعمال ماركس الفلسفية الأولى بالمقارنة مع فترة نضجه التي كتب فيها الأجزاء الثلاثة من (رأس المال). فبعض الباحثين يعتقدون أنها تتسم بأهمية فائقة لفهم ماركس، بينا يرى آخرون، شأن ألتوسير مثلاً، أن الأعمال الأولى كانت مجرد اعداد لتقديم العلم الشامل للتاريخ وفلسفة المادية الديالكتيكية. وبينما اعتبر البعض (رأس المال) انجاز ماركس المميز بلا ريب، رأى آخرون أن فيه ما هو مبهم ولم يوضح حتى الآن، خصوصاً ما يتعلق بمنهجية ماركس الفلسفية. وفي هذا السياق يتعين علينا القول إنه رغم كون (رأس المال) هو الانجاز المميز للمادية الديالكتيكية، فان هناك القليل مما كتب عن ذلك في صفحاته. ويحتمل أن يعود بعض هذا الى الكيفية التي كتبت ونشرت بها الأجزاء الثلاثة. فالجزء الأول نشر، كما هو معروف، خلال حياة ماركس، بينما حرر ونشر الجزءان الثاني والثالث في وقت لاحق على يد انجلز. ويرى باحثون أنه لو أن ماركس كان قد منح وقتاً أطول ربما عبر عن آرائه بصورة أكثر تفصيلاً. لكن باحثين آخرين يرتابون في أن ماركس كان، ببساطة، قد فقد الاهتمام في أن يواصل خطاه على أرض مشى عليها سابقاً. وقبيل الوقت الذي كتب فيه ماركس (رأس المال) كانت غاية المادية الديالكتيكية تغيير العالم عبر تقديم نقد الاقتصاد السياسي الرأسمالي. واذا ما أخذنا ذلك بالحسبان، ربما قدرنا، كما يعتقد باحثون، أن اهتمام ماركس بات أقل بالكتابة عن منهجيته التفسيرية لمجرد تفسير العالم.

وهناك اليوم الكثير من الجدل حول منهج ماركس الفلسفي ومدى علاقته بالهيغلية. بعض الباحثين يعتقدون أن ماركس ابتعد عن هيغل وقد كلفه هذا الابتعاد كثيراً، ويرتاب آخرون في أن جزءاً من السبب الذي ينطوي على نداء العودة الى هيغل يتمثل في أن منهج ماركس الفلسفي لم يجر الافصاح عنه كثيراً في أعماله الأكثر شهرة. وبالتالي يتعين على المرء أن يقوم بالكثير من الاستدلال التفسيري لالتقاط المنهج الفلسفي من الصفحات الكثيقة لـ (رأس المال)، وأرقامه "الجافة" وتحليله االتاريخي.

ومن هنا يصبح النظر في كتابات ماركس الأولى أساسياً لتطوير فهم أغنى وأعمق لفلسفة ماركس ونهجه الفلسفي. في (الغروندريسه) وليس في (رأس المال) يفسر ماركس، على نحو واضح ومنظوم، منهجه النظري في التحليل. إن إنجازه اللاحق هو محاولة عصرية لتحليل ونقد االتطور التاريخي للرأسمالية الصناعية الحديثة. ولكن هذا، في الواقع، خاضع  للآراء النظرية التي ظهرت في (الغروندريسه)، حيث تكاملت وصقلت كل أفكاره النظرية الأولى المتفرقة، لتتحول الى نظرية ناضجة هي المادية الديالكتيكية. وهذا يوفر نظرة دقيقة وشاملة لهذا العمل الأساسي المبكر، اذا كان للمرء أن يفهم جزءاً أساسياً من فكر ماركس. ونعتقد أنه اذا ما جرى الاضطلاع بهذا على نحو دقيق يمكننا أن نرى أن منهج ماركس الفلسفي من الغنى بحيث يمكن مقارنته، ايجابياً، مع منافسي ماركس بمن فيهم هيغل.

الخطوات الثلاث لمنهجية ماركس الفلسفية

في (الغروندريسة) يجادل ماركس بأنه اذا ما رغب المرء في فهم شيء مثل "الانتاج" فان عليه أن يجرده من الخصوصيات التاريخية لكي يدرك سمته العامة. ولكن كيف يمكن للمرء فعل هذا ؟ لتسهيل ذلك ربما نصف منهجية ماركس كمنهجية بثلاث خطوات. وعلى الرغم من أن ماركس لم يصفها على هذا النحو، فانها يمكن أن تكون الطريقة الأسهل للامساك بما يتحدث عنه. ويتعين علينا ملاحظة السمة الديالكتيكية لمنهجه، وهذا نموذجي لدى ماركس، كما كان الحال مع هيغل، وصولاً الى الحركة ذات الأجزاء الثلاثة. إن الديالكتيك هو منهج للتحليل، وطريقة للحديث عن العلاقات الاجتماعية التي توجد في العالم المادي.

الخطوة الأولى هي تفحص الطريقة الفعلية التي ينتج بها البضائع أناس محددون في فترة تاريخية معينة. وما أن تكون لدينا دراسات حالة فانه من المحتمل فصل العموميات عن الخصوصيات. وعملية الغربلة هذه ضرورية، والا فان ادراك عملية عامة مثل "الانتاج" سيكون مستحيلاً. يمكننا فقط أن نعرف التقنيات المشروطة المحددة التي بواسطتها تنتج المجموعات المختلفة البضائع.

والخطوة الثانية هي تطوير نظرية تجريدية ولكن شاملة لمفهوم – قبل الانتاج – في الفكر. وتشمل منهجية التجريد هذه تجميع السمات العامة لظواهر معينة مثل "الانتاج" سوية ودمجها لصياغة مفهوم نظري تجريدي. وينبغي أن تنطبق المفاهيم التجريدية التي يطورها المرء في كل مكان حيث توجد الظواهر.

وأخيراً، يجب أن نعيد الخطوة الثالثة والأخيرة من الفكر المفاهيمي الى "العالم الواقعي". وهذا يشمل تطبيق المفاهيم النظرية التي طورها المرء على الظواهر التاريخية الواقعية، لكي يستطيع المرء أن يفهمها على نحو ملموس، وهو مما يعرف بفهم الملموس في الفكر.

إن ما يخلق "الملموس في الفكر" من مجرد الملاحظة االتاريخية هو أننا يمكن، الآن، أن ندرك المنطق الداخلي للظواهر وليس مجرد مظهرها الخارجي. فاذا كان المرء، على سبيل المثال، يراقب العالم ويحاول فهم الانتاج، فانه قد يراه باعتباره الطريقة التي يصنع بها الناس البضائع. وهذا يأخذنا الى الخطوة الأولى حسب. أو ربما يتخذ المرء خطوة الكثير من الاقتصاديين المحدثين ويفهم الانتاج على امتداد خطوط تشكيلة من العلاقات الرياضية. ويعود هذا الى أن ما هو هام، بالنسبة للاقتصادي المحدث، ليس، في الواقع، الكيفية التي يصنع بها الناس البضائع، وانما القيم التي يجري التعبير عنها فيها، وهو ما يقودنا الى الخطوة الثانية. غير أن ما يمضي اليه ماركس بعيداً يرغمنا على أن نرى أن هذه القيم نفسها تعتمد على العلاقات الاجتماعية التي تجعل من بضائع معينة ذات قيمة في المكان المناسب والوقت المناسب. وبكلمات أخرى فان ماركس يريد أن يتفحص العلاقات الاجتماعية التي تجعل من الأشياء "سلعاً" ذات قيمة تبادلية. إن هذا يمنحنا فهما أغنى وأشمل للعالم الاجتماعي للعلاقات المادية.

إن منهجية الخطوات الثلاث تبدأ بنا في مستوى التجريبية الخالصة التي تتوافق مع الحدود الآيديولوجية للتفكير السليم. وهذا هو العالم المدرك مباشرة، حيث يذهب المرء الى العمل وينتج السلع لكي يدفع له، وليس هناك شيء انعكاسي في ذلك. وفي الخطوة الثانية يتحرك المرء الى مستوى أكثر انعكاساً. فالمرء يطور فكرة عما يجري في اطار قيمة السلع المنتجة. وهذا يتوافق مع الحدود الآيديولوجية للاقتصادات "المبتذلة". إن المرء يرى العالم كمجموعة من القيم، من دون أن يتساءل عن كيف ولماذا ظهرت في هذا الشكل التاريخي الذي تتسم به. وتقودنا الخطوة الثالثة، من ثم، الى االمادية الديالكتيكية الشاملة. وينطبق مفهوم القيمة ثانية على العالم كما هو موجود تاريخياً. وعندما يظهر هذا ندرك أن لدى السلع قيمة بسبب النظام الاقتصادي الاستغلالي الذي نعيش فيه. وعلى سبيل المثال ندرك أن السبب الوحيد الذي يجعل السلع ذات قيمة معينة كونها تتحول الى صنمية في اطار مجتمعنا.

قد لا يحقق هذا العرض السريع لمنهج ماركس الفلسفي كما تقدمه (الغروندريسه) موقفاً عادلاً بالنسبة لغنى فكره. وفضلاً عن ذلك، وكما عرف ماركس جيداً، فانه في الممارسة يبرهن المنهج الفلسفي على جدارته الحقيقية. ولكننا نأمل أن نكون قد أوضحنا بعض سمات المنهج بذاته، وأضأنا مسألة لماذا يظل جديراً بالقاء نظرة من جانب المفكرين اليساريين والثوريين الذي يتمتعون بنمط تفكير نقدي. إن التفكير عبر المنهج يمكن أن يساعدنا على تحقيق ادراك أفضل للنظام الاقتصادي الذي نعيش فيه، والآيديولوجيات المتحكمة التي تمنعنا من ادراك حقيقة قوته. 

عرض مقالات: