ما من رجل مسرح في العالم تعرض الى عواصف النقد والتجريح كما تعرض لها انطوان آرتو "1896 – 1948" كمؤلف ومخرج وممثل ومصمم وشاعر ومترجم، بعد ان اطلق على مسرحه صفة "مسرح القسوة" إثر اصداره بيانات مسرحية على مراحل متعددة من حياته، ثم جمعت في كتابه الشهير "المسرح وقرينه" عام 1938. وآرتو الذي مات في منتصف العمر كان قد ارسى معالم ثورية ادبية وفنية ما زال صداها يسمع حتى اليوم وسط هذا الخضم الهائل من العلوم والآداب والفنون التي تسود العالم. لقد تجلى تأثيره بوضوح في المسرح المعاصر منذ اوائل ستينيات القرن الماضي، وان كان ثمة كتّاب ومخرجون قد وقعوا تحت دائرة سحر افكاره وابداعاته قبل ذلك بسنوات كثيرة. ومن المثير ان يعد هذا الفنان حتى يومنا الحاضر، مؤسساً لأسلوب مسرحي جديد، لا يمكن ان يضاهيه احد غير بريشت الذي يشترك معه في الاختلاف في توجهات المسرح اكثر مما يأتلف معه بالمزاج والتزمت. وقد سار الكثير من المخرجين على خطى آرتو، لعل اشهرهم بيتر بروك عالمياً وصلاح القصب عربياً.
ويخيل لي ان آرتو الذي تذبذبت آراؤه ايجابياً وسلبياً، سار على وفق وجهة نظر حديثة تجاوزت العديد من الاساليب المسرحية القديمة، وثبت على موقف يشير الى ان المسرح قرين الحياة وانه لا بد ان يهز المشاهد داخلياً ويشعره بقسوة الحياة والكون والوجود وانعكاس تلك القسوة على جسده، وهو بذلك يقف نقيض ما يراه اولئك الذين عاشوا في ظل مسرح غربي تقليدي، إذ تحدوه رغبة جامحة في خلق مسرح حر يتسم بأصالة الموسيقى والشعر التي تعكس ما يجب ان تكون عليه الحياة.

حياة حافلة بالانهماكات

منذ سن الخامسة عانى آرتو من التهاب مرض السحايا، وطيلة حياته المذكورة دخل المصحات العقلية لأكثر من عشر مرات، الا انه لم يثبت جنونه رسمياً الا في العام 1937. ومن اجل ان نكون اكثر قرباً لسلسلة آلامه وابداعاته فلنتفحص سيرته الذاتية بشيء من التفصيل والاستدراك.
يثبت المؤرخون والدارسون لهذه السيرة ان انطوان آرتو بدأ حياته الادبية شاعرا وناقدا عام 1920 في مجلة "ليتراري ريفيوديما" وفي العام ذاته شارك في اول ادواره المسرحية على مسرح اللوفر، الا ان بعض المصادر تؤكد ان ظهوره الاول كان عام 1921 في مسرحية "وساوس سجانريل" بدور صامت على المسرح ذاته وهو العام الذي ضمه تشارلس دولان الى ورشته "الاتيليه"، ومن ادواره المسرحية الاخرى الملك غالفان بقلمه وتصاميمه المناظر والازياء. ثم لعب دور ملك بولندا في مسرحية كالديرون "الحياة حلم" وقد قام ايضا بتصميم مناظرها وازيائها.
وفي عام 1922 ادى دور تيرسيا في انتيغونا لجان كوكتو وكانت المناظر المسرحية من تصميم الفنان بيكاسو، وفي عام 1923 لعب دور جاكسون في مسرحية اندريف الشهيرة "هو الذي يصفح" ثم دور الروبوت في مسرحية "الانسان الآلي" لكارل تشابك. وفي خلال هذه الفترة كان قد شارك في احد عشر فيلما في فرنسا وايطاليا والمانيا.
وفي محطة مهمة من حياته الابداعية انضم آرتو الى الحركة السريالية بقيادة اندريه بريتون عام 1925 وهو العام نفسه الذي ولد فيه بيتربروك في بريطانيا الذي سيكون لاحقاً من ابرز الداعين الى فلسفة آرتو الجمالية، خصوصاً في كتابيه الشهيرين "رحلة الى افريقيا" كتقليد لقواعد آرتو في "رحلة الى المكسيك" و"المكان الفارغ" الذي يكرس لمنطلقات آرتو الجمالية والفنية في "المسرح وقرينه" والكتاب الاخير كنا قد قرأناه في ثمانينات القرن الماضي بترجمة الفنان سامي عبد الحميد، وفيه نجد بروك يحاول ان يبرهن شأن آرتو ان الفن المسرحي فوق كل شيء، فن الحياة الذي يمكن التعبير عنه دون ابنية او مناظر مسرحية، لأن الزمان والمكان يكفيان.
وفي محطة اخرى من سيرة آرتو نجده يؤسس مع المخرج روجيه فيتراك مسرح "ألفريد جاري" عام 1927، حيث قدما في غضون عامين نتاجات تجريبية متعددة. وفي عام 1931 رأى آرتو في المعرض الكولنيالي بباريس الراقصين القادمين من جزيرة بالي الذين كانوا سيؤثرون تأثيرا عميقا في مفهومه للمسرح، حيث كتب:"اذا ترك الناس عادة الذهاب الى المسرح فهذا يرجع الى اننا اعتدنا على مدى اربعمائة عام، اي منذ عصر النهضة، مسرحا سرديا ووصفيا خالصا.
من اشهر عروض انطوان آرتو كمخرج مسرحية "الاحراج" للشاعر الشهير لويس ارغون عام 1925 في مسرح الفيوكولومبيا، ومسرحية "اسرار الحب" لفيتراك 19 في مسرح غريفل، ومسرحية "لعبة الحلم" لستيند بيرغ 1928 على الافينيو، ومسرحية "فيكتور" 1929 في مسرح "لاكوميدي دي شانزيليزيه" ومسرحية "آل شنشي" 1935 في الفوليس فاغرام، فضلا عن الاخراج المشترك مع زميله فيتراك في العديد من العروض المسرحية في فرقتهما "ألفريد غاري" ذات طابع الشركات المساهمة المحدودة.
طاف آرتو الكثير من البلدان في رحلات فنية واستكشافية وعلاجية كالمكسيك وايطاليا والمانيا وبلجيكا والجزائر وكوبا وايرلندا وجزيرتي آرن وارينيشمور، مع علاقات صميمية مع كبار فناني فرنسا وادبائها، فضلا عن الجماعات الشيوعية والسريالية المعروفة في ذلك الوقت، امثال ايلوار وآبولنير، وآرغون وبريتون وميشو وبيكاسو وبراك وشاغال وارنست وفيركوري وجيد.
مع علاقات خصوصية مخيبة مع شاعر فرنسا الكبير وقتذاك جاك بريفير وحب اشبه بالعشق مع الاديبة الشهيرة إناييس نن.
كتب انطوان آرتو عن مسرح القسوة كثيرا، اضافة الى ما دونه من انطباع ومشاهدات لمسارح بدائية فطرية اعجب بها واعلن مضامينها وحبذ تطبيقها بحماس وجرأة. كما كتب البيانات المسرحية والرسائل المختلفة. ومن كتبه التي لفتت الانظار اليه "سر الغموض" و"ميزان الاعصاب" في العام 1925 و"رسائل الى جاك بريفير" 1927، و"الرحلة الى تارا هيومارا" و"رسائل روديز" 1946 ثم كتاب "فان كوخ- الرجل" عام 1947. وقد منح عن هذا الكتاب جائزة سانت بيف عام 1948 قبل موته التراجيدي في احدى الشقق الباريسية بثلاثة شهور. وهكذا يمكن القول ان آرتو رجل مهووس بحب المسرح. وصدق تلميذه الشهير المخرج جان لويس بارو الذي قال عنه: انه رجل تحول كيانه كله الى مسرح.
فالرجل من ناحية، ومواهبه واعماله من الناحية الاخرى في رأي الناقد المسرحي النمساوي المعروف مارتن ايسلن، لا يمكن فصل احدهما عن الآخر لانهما يتصفان بمعان اعتبارية واحدة. ولا يهم والحال هذه، ما اذا كان آرتو استاذا ام مجنوناً، لان كل ما يخص آرتو يتميز بالابداع، حياته الاستثنائية واهتماماته المعرفية وعواطفه وتأثيراته الكبيرة، فضلا عن اشراقاته واصالته التي طبعت عروضه المسرحية وانتاجاته الاخرى بطابعها المميز.
شوائب الموهبة
الموهبة مثل موشور ضوئي او قوس قزح، ومثل ماء صاف رقراق او زهرة ناصعة البياض قد تشوبها شائبة فتختل او تنكمش بصفائها، ومنها نسوغ هذه الشوائب وايجاد وظائف لها في صفة الموهبة، الا انها تظل شائبة يود الناظر لو لم تكن.. اقول هذه الحقيقة في اعقاب هذه السيرة المبدعة الواسعة في الحياة والشعر والفن.
حقاً، ان اصابة هذا الرجل بمرض السحايا في طفولته المبكرة ودخوله المتكرر المصحات العقلية والمنتجعات الصحية، فضلا عن ادمانه المستمر المسكرات مع تأثره بالحركة السريالية التي عرفت بالانفلات والمغايرة لقواعد الفن والمسلك في الحياة، قد فعلت فعلها في مس جنونه الابداعي على الرغم من انهياراته العصبية والنفسية التي لازمته طوال حياته، الامر الذي ادى الى جنون ابداعي من نوع متفرد خاص، لا يمتلكه الا رجل عبقري جدير بأن يطرح عنه هذا السؤال: هل يمكن ان يأتي المجنون بالخوارق الفنية والنظريات الصائبة في كل ما يكتب او يفعل؟
ولكن، الم يطرح هذا السؤال ايضا حول شخصيات مبدعة اخرى عانت الحالة ذاتها وتخرصات اخرى ضمن فعل الجنون، امثال ديستويفيسكي ونيتشه وكافكا وبروست؟ حقاً، انها شوائب المبدعين!

في طهرانية الكتابة والصراع الابداعي

واخيراً، يعد كتاب انطوان آرتو "المسرح وقرينه" منيفيستو الحداثة المسرحية التي لا تقاوم في القرن الماضي، ببياناته ذات اللغة الشعرية المتعالية والعمق الفلسفي المبهر الذي تجلى في كل فقرة فيه، بعد اضمامة من المتون والعنوانات المثيرة التي لم تخطر ببال مجايليه في ذلك الوقت، ومنها: المسرح والطاعون، المسرح والميتافيزيقيا، الفن والموت، المسرح في بالي.
لقد جاءت طروحات هذا الكتاب كصدى لإحدى مقالاته المبكرة في احدى صحف مرسيليا في اثناء عمله مع تشارلس دولان، يقول آرتر عنها: ثمة اناس يرتادون المسرح، تماما مثلما يرتادون المواخير. ورب قائل يقول بوجود نوعين من المسرح في الوقت الحاضر: مسرح زائف هش بجانب الحقيقة يرتاده البرجوازيون واصحاب العقارات والمخازن وتجار الخمور ومعلمو الرسوم المائية والمغامرون والساقطات والفائزون بجائزة روما، حينما تقام عروضه في ساشاغيرتي وفي البوليفار وفي لاكوميدي دي شانزيليزيه ومسرح آخر يسعى الى الاستظلال بسقف حيثما امكنه ذلك. ومع ذلك فهو يعد انجازاً لأطهر ما يطمح اليه الانسان".
هذه الطهرانية والقسوة او النشوة، كما يصطلح عليه البعض من رواد المسرح المعاصر، فضلا عن شواغل آرتو في مسرح "ألفريد غاري" وحركة السرياليين، مع طروحاته المقطرة في الشعر والجمال وفنون المسرح قد تعد ثورة حقيقية في زمن غابت فيه المغامرة ولواعج التجريب والطليعية وغياب الخارق واللا مألوف في منصات المسرح.
الم تردد الاديبة المبدعة اناييس نن قول آرتر الاشهر:"اشعر احياناً انني غريب عن كل شيء، سوى الكتابة. بل اصف الصراع مع الكتاب صراع الولادة.