بدأ الشاعر الراحل عبد الأمير جرص بنشر قصائده بشكل فعلي أواخر الثمانينيات، وقد كتب القصيدة العمودية وأبدع فيها لكن موجة الحداثة آنذاك أخذته إلى شواطئها كما هو حال أغلب الشعراء الذين يبدأون بالكتابة ومن ثم يخطون لأنفسهم المسار الذي يختارونه في الكتابة. وبالرغم من ذلك استطاعت قصائد النثر التي كتبها الشاعر أن تحدث تأثيراً في الأوساط الثقافية داخل العراق وبخاصة في سنوات التسعينيات من القرن الماضي.
عاش الشاعر حياة صعبة لم تخل من الفقر والصعلكات والحب والتشرد في أحايين كثيرة. كان جرص كثير التردد على مقهى حسن عجمي واتحاد الأدباء كما هو حال العديد من الأدباء العراقيين الذين لم يجدوا ضالتهم إلا في هذه الأماكن التي يلتقون فيها ويكون نقاشهم في الغالب عن حال الشعر داخل الساحة العربية والعالمية. وذات صيف وفي حديقة اتحاد الأدباء كان جرص يجلس كعادته مع مجموعة من أصدقائه حتى جاء الشاعر رياض ايراهيم ومعه صديق يدعى "عزام الأحمد" الرجل يعمل في التجارة، ودارت نقاشات وحوارات عديدة ما بين الجالسين وحين عرف الرجل الذي أسمه عزام بوجود الشاعر عبد الامير جرص ما بين الجالسين وقف وهو يحتضنه ويقبله، وقد تبين أن هذا الشخص من المعجبين جداً بشعر جرص حين قرأه في الصحف أو المجلات، ومن ثم قال لجرص: لماذا لا تطبع مجموعة شعرية تجمع فيها قصائدك الجميلة؟ فرد عليه جرص: بأن الحال تعيس ولا يساعد على كلفة الطباعة وان كانت مبالغها زهيدة، فتبرع عزام والذي يبدو انه مقتدر مادياً بطباعة مجموعة عبد الامير جرص على حسابه الخاص، وفعلا طبعت المجموعة تحت عنوان "قصائد ضد الريح". قدمت المجموعة عبد الامير جرص بشكل جيد داخل الوسط الثقافي العراقي في بداية عقد التسعينيات. وكتب عنها العديد من الدراسات واعتبرت واحدة من المجموعات الخارجة عن المألوف.
كانت قصيدة النثر التي يكتبها جرص تحمل مفارقات كثيرة، قصائده في الغالب تكون مشاكسة ويقف القارئ أمامها دائماً مستفزاً وتنتابه الدهشة. وبعد أن هاجر العديد من الأدباء العراقيين الى عمّان ومنها إلى دول أوروبا وأمريكا وكندا جاء الشاعر أواخر التسعينات الى عمّان ومنها ذهب إلى ليبيا للتدريس، لكنه عاد ليقدم أوراق لجوئه ويذهب الى كندا. كان الشاعر قد أصيب وهو في بغداد بمرض الفقرات الذي شل حركته وأصبح يمشي بطريقة مائلة رابطاً عنقه برباط طبي وكان فرحاً بسفره عله يحصل على العلاج في كندا، وهناك بدأ بممارسة حياته الجديدة كما يفعل كل مهاجر جديد. لم يكن الشاعر يعلم أن موته سيكون في هذا البلد البعيد وبطريقة لم نتوقعها نحن أصدقاؤه، فقد استقل دراجة هوائية وظل يتنقل داخل المنطقة التي يسكنها وما أن انحرفت عن مسارها حتى سقط أرضاً على رأسه الأمر الذي أحدث نزفاً شديداً داخل الرأس لينقل الى مشفى المدينة وعلى الفور فارق الحياة.
في مجموعة "قصائد ضد الريح" تتجلى الصورة الشعرية العالية بالرغم سخريتها من الحرب والموت والجوع والفقر والحب والألم، وحقق حضوراً شعرياً مميزاً في تلك الفترة القاسية ومن يقرأ جيداً قصائد ضد الريح سيلتقي بشاعر من طراز خاص، شاعر عشق الشعر فأبدع في كتابته، وعشق الحياة فنبذته في منفاه! يقول في واحدة من قصائده:
أليس مسلياً أن أكتب ضد الريح ..
وأن أتحدث ضد الريح ..
في يومِ عاصف
إذن ! لتكن الريح .. أبي
وليكن أبي ..
مثلاً ، اقول مثلاً
يوليوس قيصر ..
أليس رائعاً أن أكتب ضد يوليوس قيصر
الذي هو : أبي
أو بالأحرى الريح
تلك التي قدّر لي
ان أكتب ضدها
وأن أمشي ضدها
في يوم عاصف!

عرض مقالات: