بعد منتصف الليل بساعة، توقف عن القراءة والقى جانبا الكتاب الذي كان يتحدث عن محطة قطار نائية يمر عليها القطار الذاهب الى الحرب والقطار العائد منها، وعن وجوه ومحطة وجدران باردة، وقليل من بائعات ساندويشات البيض والشاي والقيمر حيث يهبط من كان مستيقظا في تلك الساعة من الليل ليتناول وجبته وهو يطالع امتدادات السكة الافعوانية حينما تسقط عليها كشافات القاطرة وهي تنفث بخارها في تلك الساعة من ليلٍ أجرد يحيط القطار كمعطف بلا لون من جميع الجهات، هناك بضعة اضواء شاحبة توزعت على الرصيف الذي يشغله الباعة في اخر الليل، لم تثره لكنه تحمس للحدث الذي عاشه جندي بعد غفوة عميقة في القطار المتجه به الى الحرب، حلم بتلك اللحظة وسط تأرجح القطار أنه سيموت حالما يصل القطار وجهته. استفاق مفزوعا وهو يرى ارجوحة القطار تخفت رويدا رويدا والقطار على وشك الوقوف في المحطة. وقف قرب الباب وهو يحمل حقيبته وحالما وقف القطار كان أول الهابطين، لم يذهب ناحية باعة السندويشات كالاخرين بل انزوى في ركن قصي من اركان المحطة التي لم يسأل عن اسمها، لكنه يعلم انه في منتصف المسافة الى الجبهة. اتخذ قراره وهو يستعيد تفاصيل حلمه المفزع أن يقطع رحلته مهما كان الثمن وأن يمضي الليل في المحطة بانتظار القطار العائد. اتخذ له مجلسا في زاوية مظلمة من زوايا المحطة يدخن بشراهة منتظرا قطار العودة. لنترك الجندي المفزوع يدخن في المحطة ونعود الى الكتاب والاسئلة التي اثارها عن الساعات التي امضاها ابناء جيلنا في قطارات صاعدة ونازلة، وهل تكفي قصة او قصص عن القطارات التي احيلت الى التقاعد في الوطن وهي تؤرجح بين اجسادها المستطيلة الاف الحكايات، يفكر في كتابة قصة من وحي خراب وسيلة نقل، هيمنت على الذاكرة والمشاعر منذ الطفولة ودخلت مفردات حياتنا وقصائدنا، قطارات احيلت إلى التقاعد "القطارات المصبوغة باللون الاخضر الداكن والمتداخل معه اللون الحليببي النابض بالحياة" بنوافذها المؤطرة بالخشب الاخضر، أجل، اختفت ولم يبق منها سوى الصورة المحزنة التي تراها ونحن نمر في الشارع المجاور لمحطة القطار العالمية، نرى في الفضاء عشرات الفاركونات المعطوبة، فاركونات سبق لها ان عاشت معنا اجمل قصص الحب والخوف والرعب وتحولت الى مقبرة.. ومن الصور التي تشبه صورة الجندي الذي تركناه يدخن في انتظار القطار العائد من الحرب، تتحدث عن جندي يصل محطة القطار، وهو يحمل حقيبته المحشوة بخبز أمه، لم يدخل مباشرة الى البوابة التي تؤدي الى رصيف انطلاق القطار، بقي يتأمل الشارع المحاذي للمحطة، ربما شاهد سيارات تطلق زموراتها وهي تحيط سيارة عرسان، ضحك كثيرا في سره وهو يبعد شبح الحزن الذي سيطر عليه منذ ليلة الامس وطوال النهار وصولا الى ليلته هذه التي امضاها متسمرا امام مشهد العرس، اعاده صوت الصفير الذي يعلن فيه القطار انه سينطلق.. فكر في المسافة التي تفصله عن الرصيف، سار مسرعا، تواصلت صافرات القطار تباعا وسمع الزفير الواضح للقاطرة وهي تبدأ بالحركة، فكر في الاجازة التي انتهت، المسافة بينه وبين القطار بقدر مسافة الرصيف الممتد من بداية مدخل المحطة وحتى نهايته، كان يركض والحقيبة تتأرجح على كتفه، كلما كان يركض اكثر كان القطار يسرع اكثر، بدأت خطاه تتثاقل بفعل التعب أو الاختناق الذي كان يحسه في صدره، كلما تثقل خطاه كلما يزيد القطار من سرعته.. وقف الجندي على الرصيف الموحش وحيدا.. لا يعرف ماذا يفعل وهو يفكر بالتواريخ المكتوبة في ورقة تصريح الاجازة قبل أن يقرر أن يدس نفسه في أول تكسي عائدا به الى البيت.

عرض مقالات: