* الليلة الاولى

لماذا تهجرها، وتحزم حقائبك لترحل عنها، أتظن أن واحدة أخرى ستكون أرحم بك منها؟

صوت يجعل أي منادى محرجا مع نفسه..

تغاضيت عنه، لرغبتي أن أكون غير مقصود به. لكن، الصوت كان قريبا مني، حتى جعلني أفز من النوم وأغادر الحلم.

 صباحاً وفي مقصورة الصحو تناولت فنجان قهوتي، وحدثت نفسي ملياً عن دوافع الصوت، وعن نبراته، أكانت مألوفة لي، لتقودني إلى صوت اعرفه،أم لا؟

عاكست فكرتي برأي أكثر واقعية عن سيرتي التي خلت منذ عقدكامل من أثر امرأة ما تشاركني الحياة،  إذاً فالصوت بتمامه لايخصني بل، يخص آخر دخل إلى حلمي سهواً.. ضحكت كثيرا وانا اسحب نفسي من تخوم الفنتازيا،. أيمكن لمثلى ان يُخدع بأمر غير معقول؟ أغلقت نوافذ التداعي وبدأت أنسى بأريحية وهدوء.

 * اليوم العاشر

كالعادة مررت بدكان أبي الحسن الفاكهاني، فملأت عدة أكياس من فاكهة طازجة انتقيها منه حصة كل أسبوع، ودفعت له الحساب، ثم ودعته، فحملها عامله إلى صندوق سيارتي، شكرته ودسست في يده هدية عن جميله. شغلت سيارتي، وتهيأت أن اتحرك بها، صاح بي ابو الحسن وهو قادم نحوي:

 من فضلك يا.. (وصلني قبل أن يكمل عبارته...)

- تفضل يا حاج.

استميحك عما سأكلمك به. (حركت رأسي بالايجاب)، فاسترسل: منذ عشر ليال مرت، كنت على سريري في نوم عميق، ورأيت نفسي كأني سائر في زقاق غريب طويل ونصف مضاء، واجهني باب حلمك، ففطنت بأنه مفتوح تتسرب منه وقائع تدور معك وحولك، لم اشح بوجهي عنها، أو ارعى حرمتها، تبصرت بها وأطلعت عليها، ساورني خجل شديد منك لاحقا، فجئتك اطلب السماح، وان تقبل اعتذاري، و تبرئني الذمة..

-ماذا رأيت؟

رأيت رجلا وقورا يكلمك بحرقة وحرص ومحبة،

 إلا انك تجاهلته، أو تظاهرت بأنك لا تراه، وإني على يقين بأنك كنت تراه وتسمع ماكان يقول، كيف لا وقد سمعته واضحا وانا أبعد منك عنه.

-وماذا سمعت؟

 سمعته يكلمك برجاء وتوسل: لماذا تهجرها، وتحزم حقائبك لترحل عنها، أتظن بأن واحدة أخرى ستكون أرحم بك منها؟

- انا لا أعرفه ولا أعرف التي يقصدها.

 اسمعني يا استاذ: حين اغلقت باب حلمك، أخذته معي إلى حلمي، كلمني عن نفسه وأوصاني وصية لك، قال أبلغه عني السلام و أوصيه ألا يهجر الديار يوم يقوم الخراب.

 من يكون، وعن اي خراب، واية هجرة يتحدث هذا الرجل؟

 * في بوم من السنة العاشرة

قطعت رجلي من المرور بأبي الحسن الفاكهاني، تفاديا لأي احراج قد يحدث لكلينا، والأكثر منه كنت حريصا على ان يُغلق الموضوع وُينسى تماماً. وكان كذلك ومضى زمن دون أن افطن الى الموضوع أو اتذكره، حتى وجدت نفسي اسير بذات الشارع بل، وبالقرب من دكان الفاكهاني، وما لفت نظري ان دكانه استبدل بمركز حلاقة نسائية، توقفت لاستطلع الأمر،فعرفت أن ابا الحسن قد توفي منذ عامين.. تألمت لذاك وقرات إلى روحه سورة الفاتحة و رجوت الله ان يجعلها هدية واصلة ورحمة نازلة.. وفي أوان ذلك الفضاء الروحي الذي أسرني انثالت من بين ثنايا الذاكرة قصة رجل الحلم التي جمعتني بابي الحسن وتصاعد الاحساس بتفاصيل الحلم وركزت كثيرا على الوصية التي نقلها لي عنه ابو الحسن الفاكهاني رحمه الله. وعدت اسمع صوت الرجل من جديد بذات النبرة والرجاء، ولم ينقطع  سماعي للصوت في مرات متواصلة.

 * في السنة الثانية عشرة ونيف

كان ثمة إمتاع عمومي شديد جراء تيه العامة بموجة افراح كثيفة على ضوء منقلب دولي طوى قصة سلطان جائر.. رآها الناس كل من زاويته، البعض قال بأنها نعمة من الله ونهاية لكابوس اسود ثقيل، وقال غيرهم بأنها فرصة للحرية الغائبة منذ أمد سحيق  عن هذه الخلائق، اما البعض ممن تمعنوا بمجريات الفوضى وانقلاب المقاييس، وشاهدوا عن قرب مغامرات رعناء تتكرر في هتك الحرمات و تجاوزات تطول الثروات العامة، قالوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن هذه المصيبة واحدة من علامات الساعة. الحقيقة المرة الغائبة انهم لم يفطنوا الى ان الموجة تحمل في طياتها ما هو أكثر تعقيدا وعسرا على الفهم فهي مركبة من خلائط متنوعة وفيها ما لا يسر أكثر مما يسر والايام مقبلة تكفل ثبوت مثل هذا الرأي.. كنت أكثر اصحابي قلقا وحساسية لمجريات الأمور حتى فقدت ثقتي بمستقبل الإنسان من حولي واكتنفني اليأس، وأخذت تنتابني اعراض غريبة مثل فقدان القدرة على الخيال، وماعدت احلم في غضون مناماتي على خلاف ماكنت عليه، وبت انسى كثيرا..

لا أعرف هل هذه العلائم مقدمات لما سيحل بي..؟

ربما، فقد جاءني في احد نهاراتي اتصال على هاتفي من وكالة (حول العالم الدولية) وهي مؤسسة اعلامية كبيرة ومهمة لها علاقة مع أصحاب النفوذ الدولي. وفي المكالمة جرى تحديد موعد للقاء بيننا حول أمر هام كما أفصح صوت المتصل..

قابلتهم في الزمان والمكان المحددين مساء في فندق معروف في مركز المدينة..

 قال لي كبيرهم: استاذنا وقع اختيار وكالتنا على جنابكم لتتولى إدارة فرعنا في بلادكم والشرق الأوسط، ونحن واثقين من قدرتكم وأهليتكم في مشاركتنا الجادة في نشر أفكار الديمقراطية والليبرالية والدفاع عن حقوق الإنسان. ابتسمت وتحاشيت النظر في وجهه كما جعله يفسر ذلك قبولا مني للمهمة.. فاردف سيكون لقاءنا بعد اسبوع بالتمام أي يوم الأحد القادم في حفل الافتتاح الرسمي للمؤسسة. نهضنا سويا ودعني بكلمة إلى لقاء. غادرت الفندق بتثاقل؛ وصلت سيارتي مجهدا.. وكم كان الطريق شاقا الى بيتي إذ تعذر ان اكون متوازن السيطرة في سياقتي  ولجأت الي التوقف مرات..  لكن جسدي لم يكن كما بدا لي متعبا بل كان يقظاً وشجاعا وكفيلا بأن ينقذني من ورطتي العسيرة التي أرادت ان تضعني ضد نفسي، وان انقض محتوى سيرتي التي رسمتها في حياتي. وصلت بيتي منهكا و ارتقيت سريري، وانا ارتجف من هول المحك العجيب.. ارتفعت درجات الحمى مصحوبة بهذيان وهلوسة، كان وجه الرجل يطالعني ويخرج لي شخصه كاملا من بين الجدران ومن جميع جهات الغرفة، و يمد لي عقد العمل لأوقعه.

بدأت اغط في نوبة من الغيبوبة الثقيلة.. وهذا آخر ما اتذكره من تلك الليلة..

 لان جسدي تكفل بأن ينقذني من ورطتي العسيرة المضادة لتاريخي..

 لقد فعلها جسدي النبيل إذ أوقف حيوية نقاط عصبية كثيرة فيه..

نشرت الصحف الرسمية الصادرة يوم الأربعاء اي في اليوم الثالث على لقائنا خبرا مؤسفا لوكالة (حول العالم الدولية)، خبر اصابتي بجلطة دماغية مصحوبة بفقدان تام للوعي...قرأت ذلك الخبر بعد مرور عام على نشره حين تماثلت للشفاء.

عدت مسرورا إلى ذاتي التي أبت ان تتلوث بحبر أسود مزيف..

 

عرض مقالات: