أقام المقهى الثقافي العراقي في لندن أمسيته الشهرية المعتادة في مساء يوم الجمعة المصادف ٢٩/٩/٢٠٢٣ وكان عنوانها (الصورة والذاكرة – نحو بناء سينماتيك عراقي) حاضر فيها الباحث والناقد السينمائي الدكتور صفاء جبارة وقدمه وادار الحوار فيها الناقد والكاتب فيصل عبد الله وحضرها جمهور كبير من الجالية العراقية وعدد من مثقفي الجاليات العربية.
تضمنت المحاضرة موضوعات عديدة قدمها المحاضر بناء على دراسته لما يطرحه (علم دراسات الذاكرة) الذي كما قال أصبح يُدرس في كثير من الجامعات العالمية هذا اليوم، لكنه يغيب للأسف عن بلداننا لحد الآن.. هذا الحقل الذي حرث في حقول الذاكرة لكل أمة وتراثها الإبداعي وأكد على أهمية حفظه، لتنهل منه الأجيال، لا لكي تبقى أسيرة ماضيها، إنما لتستلهم منه الدروس والعبر برؤى نقديه ثاقبة ومنتجة، ولتنطلق منه لبناء مستقبلها.
وعبر خبرات وتجارب مشهودة عالمية ومتعددة، تناولها المحاضر في تأكيد جدواها في البناء والتقدم، وتطرق في التقديم مدير الأمسية الناقد والكاتب فيصل عبد الله الى ما تلعبه الصورة، وخص في حديثه لما لعبته وتلعبه السينما، في هذا المضمار، عبر تاريخها وتجاربها ومدارسها المختلفة.
وفي هذا الصدد أشار عبد الله الى إن المحاضرة تعمد الى دراسة تلك التجارب الإبداعية والمتميزة، الفردية منها او الجماعية، وذكر الأثر البالغ الذي يتركه الإنتاج السينمائي في محوري الذاكرة والنسيان عند الأمم، حيث ان بمقدور السينما تأكيد واقع، وتاريخ، وسير شخصية بموضوعية او تعمل على محو كل ذلك.. هذا يعني ان المحاضرة ستكشف اين تتجلى انتصارات البشرية وهزائمها.. وأين مكامن حركة التنوير وصيرورتها.
وفي تقديمه أيضا قال الناقد فيصل: "محاضرتنا اليوم ستتوقف عند الكثير من المفردات منها إذ ظلت الذاكرة موضوعا أثيرا للفكر والإبداع الإنساني، وحولت حقولا ثقافية وفنية بكاملها الى منطلقات تفكير ومنها أخذت السينما الكثير لتشكل عالم الفيلم والشريط السينمائي وعبر تجارب مذهلة في السينما العالمية". وأضاف: "ولكون فن السينما هو فن هجين يستعير من بقية الفنون التشكيلية والفوتوغرافية والموسيقى وما الى ذلك، من أجل إعادة لمسارات وأحزان وكفاحات وانهيارات فردية وجماعية، وشهادة عن وقائع المحن والجراح، ويكون كل هذا أساسا لبناء ذاكرة للسينما تجعلها بمواصفات تبني خصوصيات لأجناس وأساليب من الاشتغال منها الوثائقي والتخيلي، التاريخي والاجتماعي".
وفي عرافته للأمسية استعرض فيصل عبد الله منجز الضيف الإبداعي بالإيجاز التالي:
"معنا في هذه الأمسية الناقد السينمائي والباحث في حقول الدراسات الثقافية وتحليل الخطاب والثقافة المرئية الدكتور صفاء جبارة:
*عمل رئيسا لتحرير "الأديب المعاصر" الصادرة من اتحاد الأدباء.
*بدأ الكتابة عن السينما منذ أواخر السبعينات. وعمل محررا ورئيسا لقسم السينما في مجلة "فنون".
*عمل في الصحافة الأدبية العراقية، ورأس عددا من الأقسام الثقافية في الصحف.
*عمل في الحقل الأكاديمي.. وكتب أطروحة كانت اول تقديم باللغة العربية عن منهجية تحليل الخطاب في الميديا (الدراسات الاتصالية).. كما اهتم بعلم الصورة وكتب أيضا أطروحة عن صورة بريطانيا في الصحافة العراقية في الفترة
..1946-1958
*له تجربة إعلامية واسعة، كان آخرها عمله مراسلا ومديرا لمكتب بي بي سي في كل من العراق والسودان
*يعمل الآن صحفيا أقدم في بي بي سي".
ثم حول الناقد فيصل عبد الله المايكرفون للدكتور جبارة والذي قدم محاضرته كباحث في دراسات الذاكرة وسنحاول في هذه التغطية تلخيص ما جاء في أطروحاته على النحو التالي:
حدد الباحث د. جبارة أن المهاد النظري لبحثه يندرج ضمن "دراسات الذاكرة" التي انطلقت مع ما وصف بفورة الذاكرة في الربع الأخير من القرن العشرين وباتت اليوم حقلا أكاديميًا قارا تفرد له بعض الجامعات العالمية الراسخة أقساما خاصة لتدريسه؛ كما هي الحال مع جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة كاليفورنيا ومركز الدراسات التاريخية في جامعة لندن وجامعة امستردام وغيرها.
وأوضح أن حقل دراسات الذاكرة حقل أكاديمي متعدد الحقول المعرفية (ملتي ديسبلنري) يعنى بدراسة الذاكرة ووظائفها وكيف تتشكل وكيف تؤثر في مختلف معالم الحياة الانسانية والمجتمعات والثقافة، وهو يعتمد على منهجيات وحقول معرفية مختلفة كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والانثروبولوجيا والادب والدراسات الفيلمية والثقافية؛ ومن ابرز حقوله دراسة الذاكرة الفردية ودراسات الذاكرة الجمعية والذاكرة والصدمة (التروما)، الذاكرة الثقافية، الذاكرة التاريخية، وسياسات الذاكرة، والذاكرة والتكنولوجيا فضلا عن ما يعرف بالذاكرة العابرة للحدود الوطنية "ترانسناشنال ميموري". وقد شهد الحقل نموا كبيرا في السنوات الاخيرة لاسيما في ما يتعلق قضايا الهوية والعدالة والمصالحة وفهم التاريخ في ضوء سياسات الاختلاف واهتمامات الجماعات المهمشة.
الذاكرة والتاريخ
شدد الباحث على أنه يفرق بين الذاكرة والتاريخ، فإذا كان التاريخ علما موضوعيا يدرس الماضي؛ فإن الذاكرة تتعامل مع تمثيلات أو تجسيدات هذا الماضي في الحاضر. ففي الوقت الذي ينشغل فيه التاريخ بنزوع لدراسة الماضي ومعرفته وتفسيره، تقترح دراسات الذاكرة مقتربا او علاقة أكثر حوارية بين "الآن" و"ما بعد" اوما سيأتي وتنشغل بانبعاثات الماضي وكيف تتشكل وتجسد وترسخ وتنشط في الحاضر.
واعتمد الباحث في هذا التفريق على الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والمؤرخ الفرنسي بيير نورا.
شدد نورا على التفريق بين الذاكرة والتاريخ وعمق هذا لتفريق في مقدمة كتابه الموسوعي (معالم الذاكرة)
"Les Linux de memoirs"،
أو قل مشروعه الهائل لاستكشاف خصائص ومكونات وجذور الهوية الفرنسية واشترك في انجازه أكثر من مئة باحث ومؤرخ عملوا تحت إشرافه وأصدر بمناسبة المئوية الثانية للثورة الفرنسية ونشر في الفترة بين ١٩٨٤ و١٩٩٢، وقدم الكتاب في البداية بثلاثة أجزاء ثم أضاف إليه أربعة أجزاء أخرى
وقد ترجم الى الانجليزية تحت عنوان
"Realms of Memory "
وهي طبعة موجزة صدرت في ثلاثة أجزاء عن جامعة كولومبيا في الفترة بين ١٩٩٦ الى ١٩٩٨ ثم صدرت ترجمة انكليزية للأجزاء الأربعة الأخرى عن جامعة شيكاغو تحت عنوان
"Rethinking France
" في الفترة بين ١٩٩٩ و٢٠١٠
يقول نورا في هذا الكتاب: "إن الذاكرة … رابطة تربطنا بحاضر سرمدي؛ أما التاريخ فهو تمثيل للماضي". فنورا يحاول أن يربط هذا الهوس المعاصر بالذاكرة بخوف المجتمعات الحديثة من فقدان سيطرتها (أو امساكها) بالمستقبل في ما يسميه "تسريع التاريخ" مستعيرا هذا المصطلح من دانيال هليفي.
وقد ركز نورا تفصيليا على المعالم والأشياء التذكارية والأماكن والصور التي تهدف للحفاظ على الذاكرة وديمومتها، فهو يرى أن أزمنتنا هذه باتت في إن الذاكرة ضمن عمل الأرشيفات (التوثيق الأرشيفي) فالناس باتوا مندفعين وحريصين على توثيق أي شيء عسى ان يكون شيئا مناسبا في المستقبل: فالذاكرة الحديثة بنظره تعتمد كليا على مادية الأثر ولحظية وآنية التسجيل والصورة المرئية. لكنه يبدي قلقه وخشيته من أن أي أرشيف، حيث ما يسميه "العلامات المرئية لما كان موجودا" تكدس بشكل عشوائي وتصبح ذريعة للنسيان - وهي مجرد جراحة ترقيعية أو أعضاء صناعية. "prosthesis" .
ويرجع البحث في الاستخدام الاجتماعي للذاكرة إلى أعمال الفيلسوف الفرنسي موريس ألباكس الذي درس في كتابه
عام ١٩٢٥ (Maurice Halbwachs)
"السياقات الاجتماعية للذاكرة" في العلاقة بين المعتقدات التي يحملها الأفراد والذاكرة الجمعية لمختلف الجماعات التي ينتمون إليها،
كما طرح مفهوم "مواقع الذاكرة" في أعماله اللاحقة حيث اثبت أن كثيرا من المواقع المقدسة في التقليد المسيحي الاوروبي هي أماكن متخيلة؛ كما هي الحال مع درب الآلام ودرب الصلب التي باتت جزءا من طقوس الحج في القدس هي في حقيقتها من اختراع رهبان في القرن الثالث عشر ثم نشرها الرهبان الفرانسيسكيون في منتصف القرن الخامس عشر.
الذاكرة وسيلة مقاومة
شدد الباحث على أنه ينظر إلى الذاكرة بوصفها وسيلة مقاومة، فالذاكرة هي أحد المواضع التي تتشابك فيها الثقافة بالقوة أو السلطة، أي أن بنى الذاكرة المختلفة مشروطة بالتشكيلات الاجتماعية التي تنتجها. من هنا يرى الباحث أنها يمكن أن تصبح وسيلة مقاومة للفئات والجماعات المهمشة في مواجهة التاريخ الرسمي الذي تفرضه الجماعات المهيمنة، واستند الباحث في هذا الفهم إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: الذي ناقش التوترات بين التواريخ الرسمية ومعارضتها او تحديها في الذاكرة (الشعبية) غير الرسمية، محللا تأثيرات المعرفة التاريخية والتذكارية في تشكيلات الهوية وسيرورة بناء علاقات القوة.
في مناقشة للسينما الفرنسية في السبعينيات (خاصة تلك الافلام التي تناولت المقاومة الفرنسية للاحتلال الالماني) أشار فوكو أن الذاكرة "عامل أساسي في الكفاح … إذا هيمن شخص على ذاكرة الناس (نظمها) سيسيطر على دينامياتهم (كل نشاطاتهم) فالذاكرة في هذا السياق ينظر اليها كقوة سياسية نوع من المعرفة المُسّخرة التي يمكن ان تعمل كموضع أيضا لمعارضة محتملة أو مقاومة؛ ولكنها في الوقت نفسه عرضة للاحتواء " وإعادة البرمجة.”.
وخلص إلى أن "نضال الانسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان"، مستشهدا بمقطع من رواية كتاب "الضحك والنسيان" لميلان كونديرا يقول فيه: "لتصفية الشعوب، يُشرع في تخريب ذاكرتها وتدمير كتبها وثقافتها وتاريخها. وينبري آخرون في تأليف كتب أخرى وايجاد ثقافة أخرى وتاريخ آخر. بعد هذا يبدأ الشعب شيئا فشيئا في نسيان من هو وكيف كان وينساه العالم من حوله أيضا بشكل أسرع".
سياسات الذاكرة
وهنا تطرق الباحث إلى ما سماه سياسات الذاكرة، وكيف تحرص الانظمة على احتواء الذاكرة وتنظيمها بطريقة تهدف الى تعزيز رواياتها الرسمية. وتحدث عن ما سماه صناعة الذاكرة، التي باتت جزءا من الصناعات الثقافية في مجتمعاتنا الحديثة. فمواقع الماضي والتراث والمتاحف والنصب وكذلك وسائل الاتصال والسينما، كلها تنتج تمثيلات عن الماضي، وبالتالي تتدخل في صناعته وبناء تمثيلاته في الحاضر؛ فتخلق مجالا لتأمل الماضي والتفاعل معه، لكن في ضوء الايديولوجيا المهيمنة والنظام القيمي المهيمن في الحاضر. فهي لا تقدم الماضي أو الذاكرة كما هي، بل عناصر منها وتخفي جزءا آخر، ومن هذه العناصر تشكل الذاكرة الجمعية. من هنا تصبح الذاكرة ساحة تنافس لقراءات مختلفة وتنازع بين الذاكرة المهمشة والذاكرة المهيمنة. أي أن الذاكرة هنا لا تتألف مما يتم تذكره فقط بل وما يتم نسيانه أيضا . وضرب الباحث بأمثلة من السينما الأمريكية وكيف تم التعامل مع ذاكرة الحرب في فيتنام بين عصرين، وكيف استخدم أيضا جورج بوش سياسات الذاكرة في حملته للحرب على العراق في حرب الخليج عام ١٩٩٠؛ كما تناول أيضا تعامل السينما اليابانية مع مأساة القنبلة النووية وضرب هيروشيما وناغازاكي.
كما تطرق أيضا لتعامل السينما الفرنسية مع فترة الاحتلال الفرنسي؛ مستشهدا بمقابلة فوكو مع مجلة كراسات السينما في السبعينيات؛ الذي وصف السينما الفرنسية بأنها غارقة في " معركة لإعادة برمجة الذاكرة الشعبية… وفرض إطار على الناس يفسرون الحاضر عبره…لذا ليس ما كانوا عليه (ليس الواقع في الماضي) بل ما يجب عليهم تذكره عن ما كان".
الذاكرة المصنوعة
وتطرق الباحث إلى أثر لصورة ووسائل الاعلام الكبير في تشكيل ذاكرتنا الراهنة وتوقف عند مفهومي "الذاكرة الثقافية" و "الذاكرة الصناعية"؛ الذي قدمته الباحثة الأمريكية البروفيسورة في الدراسات الثقافية أليسون لاندسبرغ في كتابها "الذاكرة الصناعية": تحولات التذكر الامريكي في عصر الثقافة الجماهيرية".
ويشير هذا المفهوم الى نوع من الذاكرة المستعارة او المنقولة عبر الميديا، حيث يستبطن الافراد علاقات مع احداث تاريخية وتجارب وهويات لم يعيشونها بشكل مباشر. فالذاكرة الصناعية بشكل جوهري هي نوع من الذاكرة التي تزرع عبر اثار ثقافية خارجية ووسائل التواصل مثل السينما والتلفزيون والادب والميديا الرقمية.
الذاكرة المكلومة
توقف الباحث عند علاقة السينما بالصدمة أو التروما، واستشهد بنماذج من السينما العالمية مما سماه بسينما الذاكرة المكلومة (وهي الترجمة التي اقترحها لمصطلح ترماتايز ميموري) واستشهد بعدد من النماذج في هذا الصدد، من بينها أفلام المخرج الفلبيني ليف دياز؛ كما تطرق إلى ما وصفه بجماليات سينما البطء.
وصنف الباحث ذاكرة المجتمع العراقي بأنها ذاكرة مكلومة أثر ما مر به الفرد العراقي من محن وصدمات في العراق الحديث كالحروب المتعددة والاستبداد والاحتلال وغيرها من التجارب القاسية التي تركت أثارا عميقة في الذاكرة العراقية.
الصورة والذاكرة وبناء الأمة
تطرق الكاتب إلى دور الصورة أو السينما في بناء الهوية الوطنية؛ مشيرا إلى أنه ينطلق من فهمه للأمم بأنها ليست مجرد كيانات سياسية تحدها الحدود وتمتلك السيادة ضمن نموذج الدولة القومية الأوروبي (نيشن ستيت) وليست تكوينات تقوم على العرق؛ بل يتبنى وجهة نظر عالم الاجتماع بندكت اندرسون بأنها مجتمعات متخيلة؛ بل ذهب أكثر من ذلك فاعتبرها تشكيلات سردية (كما يعرفها هومي بابا (nation is narrations (فالسرد هو يقدم للأمة اتساقها وانسجامها، ويقدم لها روايتها السردية الجامعة التي تتفق عليها في رسم ملامح هويتها. من هنا يتجلى دور السينما في الاسهام في خلق سرديات الهوية الوطنية وفي تكوين ذاكرة الأمة التاريخية؛ كما هي الحال مع الأفلام التاريخية وكيف أسهمت في تشكيل ذاكرة الملايين عن أحداث تاريخية معينة وتوفير ذاكرة صورية لهم يتخيلون هذه الاحداث عبرها؛ فضلا عن تماهيهم مع أبطالها التاريخيين الذين يصبحون نماذج يقتدون بها ويقدسونها ويستحضرونها في أزمنة أزماتهم.
استعادة ذاكرة التنوير
وخلص الباحث إلى أنه يهدف عبر بحثه هذا إلى ما سماه استعادة ذاكرة التنوير؛ منطلقا من العراق في العصر الحديث الذي كان انموذجا لدولة الحداثة؛ إذ بنيت دولته الحديثة على اسس التنوير عبر جهود مناضليه ومفكريه منذ القرن التاسع عشر من أجل التحرر من نير الاستعمار العثماني وبناء دولتهم الحديثة؛ وقد ترافقت تلك الجهود (في لحظة تاريخية نادرة) مع التحول التاريخي الكبير في المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية، والنموذج الذي قدمه المستعمر لمؤسسات الدولة الحديثة، التي سرعان ما امتلأت بمثقفي العراق ومتعلميه ووطنييه، الذين اصطدموا لاحقا مع إرادة المستعمر. وعلى الرغم من المسار التراجيدي الذي انتهت إليه الدولة العراقية مع مآل الاستبداد والاحتلال؛ فكانت حداثة لم تكتمل، كما هي الحال مع معظم نماذج الدولة الوطنية في المنطقة العربية، التي تبنت، بحسب تعبير الباحث فكرا وسطيا تلفيقيا وحداثة عرجاء .على الرغم من كل ذلك وبالمقارنة مع الانحدار الظلامي الذي تعيشه المنطقة اليوم وانحلال الدول لمصلحة جماعات المصالح والطوائف والعشائر والميليشيات والجماعات المسلحة؛ تصبح استعادة تراث أو ذاكرة التنوير التي تركزت في نشاطات جمعية ومنتجات ثقافية وجهود جماعات اجتماعية وثقافية وسياسية تنويرية؛ ضرورة ما بعدها ضرورة..
ودعا الباحث إلى ضرورة تجسيد هذا الموروث الفكري المتناثر وجعله ماديا مجسدا عبر بناء المتاحف والارشيفات الثقافية المختلفة والنصب والتماثيل والاثار التذكارية.. وركز على دور الصورة والسينما في مثل هذا الاستعادة؛ وعلى ضرورة بناء الارشيف السينمائي (السينماتيك) الذي يحفظ لنا ذاكرتنا الصورية. مشددا على أن التحدي الحقيقي الذي نواجهه كأمة تركت إسهامًا فكريا في الأدب والشعر والفقه وغيرها من العلوم وحقول المعرفة؛ هو أن نسهم اليوم في الذاكرة الثقافية الجديدة المصورة التي تهيمن عليها وسائل الاتصال ووسائل الانتاج الرقمي المختلفة.
عليه (ليس الواقع في الماضي) بل ما يجب عليهم تذكره عن ما كان.
حظيت محاور المحاضرة بمداخلات وتساؤلات من الحضور ساهمت في إغناء العنوان الرئيسي والذي خرج الجميع بنتيجة وحيدة هي أهمية ان يكون هناك أرشيف صوري يحفظ ذاكرة بلادنا من النسيان. وفيما يلي أهم المداخلات التي طرحها حضور القاعة:
اسمهان كرجوسلي (فنانة تشكيلية سورية): يعني نحن الآن نتكلم عن سيطرة شخص على الجميع او أشخاص.. لكننا كشعوب عربية ومسلمة لدينا كتابا وحيدا.. كتابا لا يرضى التأويل ولا التطوير، فالتساؤل كيف ستكون ذاكرتنا بهذه الحالة؟ فهل سنعتمد على النص الواحد.. كلنا نعرفه ونتذكره وموجود معنا دائما؟
عبد المنعم الأعسم (كاتب وصحفي): د. صفاء أثار محاور عديدة، ويصعب الدخول في هذه الشعاب المعقدة والوعرة في قضية الذاكرة، ولكن لابد من التأكيد على ان هناك محورا رئيسيا.. هو حرص على ان يؤكد عليه وهو محور بناء ذاكرة التنوير، وفي اعتقادي هذه هي الفكرة الأساسية للمحاضرة، التي حاول فيها ان يحشد فيها الكثير من المعلومات الغنية، والتجربة الشخصية والحياتية، في العراق وخارجه.. في هذا المحور والمسار، الذي اعتقد ان هذا المسار يحتاج معالجات، يدعونها في السياسة تحديات.. أرى أولا ان ساحة الذاكرة هذه ليست محتكرة للمهمشين فقط، فهناك قوى مغتصبة.. وليس فقط التاريخ به قوى المهمشين وقوى ذاكرة التنوير، بل هناك امامنا أمثلة حية لاستخدام هذه الذاكرة بالطريقة المعاكسة للتنوير.. يعني مثلا لنأخذ الدولة الإسرائيلية تقوم على إحياء ذاكرة باطلة عن شعب مختار.. الخ وأقاموا دولة عدوانية.. الآن بالعراق هناك محاولات محمومة لإحياء ذاكرة باطلة، تحشد الملايين العراقيين في ذاكرة تاريخية أقل ما يقال فيها هي أنها معطلة.. وانا أفترض ان الكثيرين يعرفون عما أتحدث! ينبغي ان نكون حذرين في حديثنا عن ذاكرة او ساحة الذاكرة، على انها دائما موظفة لعملية التنوير.. كلا ان هناك أشياء معاكسة.. وشكرا جزيلا.
عدنان حسين أحمد (ناقد): لدي ملحوظتان، طالما جرى الحديث عن العراق والجزائر.. ففي الجزائر كان هناك مصورا سينمائيا اسمه ستيفان لانغوفيتش ذهب في ١٩٥٩ الى الجزائر وصور الجزائريين على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة ما مقداره ٨٠ كيلومترا من الأشرطة السينمائية الصالحة للعرض حتى هذه اللحظة.. وقدم لهم مجموعة كبيرة من الصور التي لا تقدر بثمن.. وأنجز ٢٧ فيلما وثائقيا، من الأفلام المهمة في ذلك الوقت، فهذه الذاكرة أسهم بها شخص أجنبي وليس عربيا، واحتفظ بذاكرة الجزائريين والان تعرض بعض أفلامه في المهرجانات السينمائية.. اما في العراق لو تتذكرون ان المصورين الأرمن او حتى مس بل، هم وهي اول من وثق للذاكرة العراقية.. انا أعتقد، لتكون المحاضرة متوازنة وحيادية يجب ان نعترف بفضل الشخصيات الثقافية والفنية الأجنبية.. وشكرا.
أجاب ضيف الأمسية على تلك المداخلات بعجالة لضيق الوقت فأكد ان ساحة الذاكرة هي ساحة تفاوض بين المهيمن والمهَيمن عليه.. واستشهد بالقول القائل انه لا يمكن القضاء على اسطورة ما إلا بأسطورة مقابلة. وأكد على انه يدعو كيف تقاوم الذاكرة المادية الرموز، فنحن مهزومون لأن الذاكرة المادية مدونة فقط، ليس لها معالم ملموسة يتلمسها الإنسان العادي. الانتصار عندما نحّول الذاكرة الى أشياء مجسدة صور، أفلام، لوحات.. الخ.. هذا هو الانتصار على الأسطورة ان نحوّل المفاهيم الى أشياء مادية.. ومن هنا يبدأ بناء الأرشيف.. اما الحديث عن النص الأول او الكتاب الواحد فقال المحاضر:" انا ضد هذه الفكرة.. فالكتاب الواحد هو أثر مادي تتشكل في ضوئه سردية متفق عليها من قبل شعوب وأمم لأنها تشكل جزء أساسي من هويتها.. لذا من الصعب ان اعتبره حاكما، لكنه أصبح جزءا من وجود الفرد.. الأمم تبنى بسرديات ينبغي التعامل معها بإجلال ". اما موضوع مساهمة الأجانب في ذاكرة شعوبنا فقال انه يتفق تماما مع هذا الطرح.. والأمثلة على هذه النماذج كثيرة.
فؤاد عبد الرازق: (إعلامي مصري) كانت هذه محاضرة قيمة، وهذا ليس غريبا على د. صفاء ولكن بدايتها كانت متشائمة للغاية، وإن الاستشهادات كانت أجنبية وجاءت على أسماء كثيرة وكبيرة مثل ميشيل فوكو وغيره، بحيث لم تستطع ذاكرتنا استيعابه مع الأخذ بالاعتبار تقدمنا في السن.. كنا نود التطرق الى نوع من النماذج العملية من الثقافة العربية.. نعم تم ذكر الجزائر.. لكن كانت هناك أمورا أخرى في المجتمع العربي وحتى في التراث العربي جرى تناول موضوع الذاكرة بشكل تلافيفها ودورها.. اذ هناك موروث ثقافي عربي كنت أتمنى اظهاره على حساب الجانب الأجنبي حيث جرى التركيز على المدرستين الأمريكية والفرنسية فقط.. ولكن هذا لا يقلل من شأن المحاضرة القيمة والعظيمة واشكرك عليها.
أجاب الدكتور صفاء على الإعلامي عبد الرازق قائلا انه يحترمه كشخص وانه تتلمذ على يديه بالإعلام، فهو قامة كبيرة في مجاله.. لكنه قال مجيبا ان حقل الذاكرة علم جديد تفتقر اليه الثقافة العربية ولهذا يدعو الآن من هذا المنبر ان نتبنى لدراسة هذا الموضوع أكاديميا، اذ لدينا موروثا فكريا هائلا ومكتوبا، كتابات الجاحظ مثلا.. نحن أمة لغة.. فاللغة مفصل أساسي في بناء الذاكرة.. لكن التحدي الذي نواجهه هو الذاكرة الصورية.. من يمتلك الأرشيف يمتلك المستقبل.