رافقتُ طفولتها ، شابة قدمت من أعماق الجنوب حيث التقاء نهر دجلة بالفرات،  يافعة تفتحت أنوثتها للتو تنشد التحرر من سطوة الأب، وصرامة تقاليد الريف، دائمة الابتسامة تنضح طيبة وكرما مثل طمى غرين الأرض.

في بغداد ، وفي بيت قريبتها امتصت بطراوتها ولين طباعها تعسف ربة البيت وطيش عصبياتها مثلما تحملت صفعات زوجها وتقلب مزاجه ، تنزوي  في المطبخ، تشهق بالبكاء للحظات ، ثم تعاود الابتسام ثانية،على أمل تحسن مزاج أهل البيت ثانية.

تكفكف دموعها على عجل وتعاود أشغال البيت بصمت تام.

تسعدها جدا لمسة لطيفة من يد الصغيرة أنسام ، أو كركرة الطفلة الأصغر سامية، فتعاود اشراقة وجهها بالابتسام.

لم تقتصر مهامها على العناية بالطفلتين، بل تنظيف البيت وإعداد الطعام،الاهتمام بالحديقة وجز حشائشها ، تؤدي مهامها بسعادة غامرة وبرضى تام طالما هي بعيدة عن قريتها حيث مهام حفر الأرض وسقي المزروعات ورعي الأغنام وحلب الأبقار.

في بغداد تعلمت تصفيف شعرها وربطه بقراصّة ملونة، وارتداء فساتين فضفاضة، وتنورات مشجرة مع بلوزات بنصف كم..

تمضي السنوات وتعيش مراهقتها وسنوات صباها متوائمة مع دأبها الحثيث بتربية الصغيرتين وتلبية طلباتهما ومواصلة رعاية الأسرة، وكثيرا ما لفتت إعجابنا ودهشتنا تلك الحيوية والحبور اللذان يملأن وجهها وهي تؤدي لنا أصول الضيافة عند زيارتنا لذلك البيت .

وحين عزمت سيدة البيت مغادرة العراق أرجعتها لأهلها بدعوى رغبتها الحصول على فرصة للزواج بعد تفتح أنوثتها، لكن لم تمض بضعة أيام حتى عادت هربا من أهلها متوسلة البقاء في البيت الكبير مرتمية على قدمي سيدته.

تذعن السيدة وتصطحبها للسفر والتنقل بين البلدان بحسب متطلبات مهنة رب البيت ..

تمضي السنوات وترجع العائلة ثانية لبغداد لتشهد فقدان الأب والأم خلال وقت قصير.. تتزوج سامية البنت الصغرى وتهاجر لأقصى بقاع الأرض، وتبقى البنت الأكبر أنسام رفقة مربيتها  في ذلك البيت الذي غشي بظلال الموت والفراق.

عجزت أنسام عن إعادة إشعاع المنزل أو رتابة إدارة شؤونه ، بل ولم تسع لمد وشائج مناسبة مع جيرانها وأصدقائها  وبقيت علاقاتها محدودة ، مكتفية بمواصلة دراستها والانكباب على ترجمة الكتب من اللغات الأجنبية.

وحدهما يشيخان معا أنسام والمربية بمضي السنين ، تتقاعد أنسام وتواصل عزلتها بالقراءة والترجمة، بينما تنشغل مربيتها بأمراضها وملازمة الفراش..بعد حين

يبادل الزمن أدوارهن فتصبح أنسام هي من تلبي طلبات مربيتها بعد أن  أعيا الأخيرة  المرض وتناقلتها أسرة المستشفيات ..

وفي وقت متأخر من ذات ليلة قرأت على صفحات الفيسبوك نعي أنسام لمربيتها  ذات الابتسامة المشرقة  بكلمات حزينة دامعة واصفة إياها بالأخت الكبرى ورفقة العمر..

اتصلت بها على الفور  للتعزية والاستعلام عن وضعها، فهالني معرفة بقائها وحدها مع جثة مربيتها، وإن أهل الأخيرة بهم حاجة لخمس  ساعات كي يبلغوا بغداد قادمين من الجنوب.

ذهبت اليها باكية منتحبة، وفوجئت بقوة ورباط جأشها، لم تذرف دمعة واحدة واكتفت بالقول أنه لابد من تدبير شؤون الجنازة.

اتصلت بقريب لي لنجدتي والتصرف بشأن الجنازة، وحضر بعد ساعة ومعه تابوت خشبي محمولاً فوق سقف سيارة نقل عالية.. اثنان فقط كانا مع قريبي، سائق السيارة ، وابن أختي الذي أوصلني للبيت..

الشباب ارتدوا قفازات بلاستيكية وكمامات تحسبا للكرونا، لفوا الجثة بشرشف ووضعوها في التابوت..

عقدت رهبة الموت لساني بادئ الأمر، لكن ما إن تجاوزوا مع التابوت باب الحديقة حتى أطلقت بأعلى صوتي مرددة ( لا اله إلا الله) قصد إسماع أحد من الجيران، والمساعدة في رفع الجثمان  إلى سقف السيارة العالية.

عبثا ذهبت نداءاتي، لم يظهر احد من الجيران أو المارة.. حتى ظهرت فجأة عربة تكتك صغيرة يقودها صبيان ، سارعت بإيقافهما وطلب المساعدة، مثلما طلبوا من الآخرين قائلين ( شباب أيديكم ويانة)..

لحظات واستقرت الجثة على سطح السيارة التي ابتلعتها عتمة الليل باتجاه وادي السلام في النجف، طاوية معها تفصيلات حياة ابتسامات مشرقة وقساوة قهر وحرمان.

عرض مقالات: