ديوان الشاعر فهيم السليم

كمتذوق للشعر، لست ملما بالتقنيات وضروب المعرفة في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في عملية النقد الشعري ، والتنقيب عن الظاهري او الباطني في عالم الشعر الذي احبة، والذي لم يثبت تعريف واحد للشعر منذ زمن هوميروس ونشيد الأناشيد ومعلقات العرب انتهاء بزمن الحداثة وما بعدها. مع الشعر امتلك يقظة مستفيضة في قراءة القصيدة، كونها عالم فني قادر على حشد الكثير من المعرفة الدقيقة، ومجموعة من المناهج المنضبطة  ، فقد استطاعت العديد من القصائد الشعرية، فتح آفاق واسعة. أرى كناقد فني، عملية النقد الشعري اشبه ما تكون بعملية تحليل الاشياء تحت مجهر، الا انني ادرك، بان لعملية القراءة الشعرية الممعنة مكانة هامة، تعتمد في أكثر احوالها، على فروض أصبحت اساسية في الفكر الانساني الحديث مميزّة له، ويعود الفضل في هذه الفروض،  في المقام الاول، كما اعتقد الى ثلاثة  عظماء من مفكري القرن التاسع عشر وأوائل العشرين وهم: دارون وماركس  وفرويد. ونستطيع هنا أن نلحظ، عابرين، بعض هذه الفروض التي تعد مفتاحا لما وراءها، وهي جديدة، نسبيا، في القراءات الشعرية المعاصرة، على ان نذكر أنه ليس هناك، قارىء او ناقد حديث واحد يقبل كل هذه الفروض مجتمعة. وقد يضاف إلى هذه الفروض والافكار نظرية جون ديوي في" الاستمرار". أن قراءة الشعر وكتابته ليستا الا صورا لفعالية إنسانية يمكن أن تقاس بأي فعالية اخرى، وانها خاضعة للقوانين نفسها ويمكن دراستها على المناهج الموضوعية نفسها،. فان النقد ما يزال الى يومنا هذا يؤدي عددا من الامور ، لم ينفك النقد يقوم بها في كل زمان. اعني تفسير الاثر الادبي ووصله بموروث أدبي سابق وتقويمه وما اشبه، فهذه كلها مظاهر خالدة لاي نقد، ذلك ان النقد شيء قائم بذاته ولكنه ليس بحال فنا منفصلا مستقلا، لتتبع التصورات والتغيرات التي تصيب معاني الصور الشعرية والاشكال الكلامية، تعبيرا عن دراسة العلاقات بين الاشارات والرموز وبين معانيها، اي دراسة " السمات" الدالة لغويا ونفسيا في كل قصيدة وما تعتمده بين الواقع والحلم، الحقيقة والخيال.

الشعر، ليس إلا انسانا يكتب وآخر يقرأ ويستمع ولا شيء غير ذلك، وان سرّ قراءة الشعر أن تشعر بأنك تمكنت من أن تلتقط المعنى العابر السريع ، أو أن تشعر بأنك تغوص، أو تهوي، مدركا أنك ستعود وترتفع مغطتبا بما عدت به من هناك، من عوالم مختبئة في خيال الشاعر.  ديوان الشاعر فهيم السليم" أحلام فهيم" حيث نطل على فحوى مدلول اسم الديوان المزدوج المعنى ،المختارلاسم الزوجة الحبيبة " أحلام" مقترنا باسمه" فهيم"، كافتتاحية لمحبة امتد عمرها سنوات طويلة، ليمتزج تاريخ شخصي بالتاريخ الشعري، ويتحول التاريخ الشخصي للشاعر وزوجته الى اشارة تحيّ الذاكرة، وتحيّ أحلام الشاعر، والمعنى الثاني هو أحلام الشاعر في الحياة  والعالم وهو المعنى الاعم ذو المدلول الشامل.

في هذا الديوان، تتشكل مفردات اللغة وصورها البلاغية وتشكيل عباراتها،  لتنزح نحو الايصال، وتجنح الى وضوح العبارة، والاقتراب من اللغة المحكية بادخال بعض المفردات العامية العراقية المحكية في بعض القصائد، خالية من الاستطرادات الجانبية، تزخر بشهوة ابتداع الصور، لتبني نفسها على قاعدة الجدل والتضاد، والتقابل. انه شاعر شكوك وأسئلة الحياة، أضفى على نصّه الشعري نكهة مختلفة تحتفي بالملموسات في المقام الأول، كأن قصيدته تتلمّس مفرداتها وفقاً للمشهديات التي تثقل روحه بالدهشة أو العطب، كلمات تخرج كما يخرج النفس، وكما تنبض النبضة. نحن هنا في قصائد يحرص كاتبها على أن يبقي أجزاءها مترابطة، أو يجهد في ألا تشذ عن إيقاعها وقافيتها، أو أن تظل ملتمّة على بنيتها. نحن هنا في عمل شعري مؤلَّف جامعا أجزاءه بعضها إلى بعض. مع  الخاطرة العابرة، في الدهشة، التي تسعى إلى أن توقفنا عندها.

من قصائد الديوان، وما يؤلف منها مبنى جماليا، نشعر بجرأة البوح، من خلال الكشف عن مكنونات العواطف والاحاسيس والنوايا . حيث قصائد هذا الديوان تشعر القارىء، بأن لاينبغي عليه أن يمرّ على الشعر تاركا إياه حيث هو، بل ان يعيد القراءة مرّة ثانية ما كان قد أنهى قراءته لتوّه،  أن يشعر بأن القصيدة أصابته، كمثل ما يصيب المرء سهم، ليجعله محتفظا بالانفعال نفسه، في ما يشعر باستمرار فعل القراءة .  يبحث في جسم القصيدة عن مواضع الشعر متفرّقة فيه، مبثوثة هنا وهناك كمثل جزر صغيرة تفرّقت ، وعلينا كقراء تتبع اثرها.  قصائد قادرة ، بكلمات قليلة توصيل فكرة أو نبضة، لاتعرف الانغلاق ، لان ما ينتظر المتلقي ، وجود معنى لايعرف الانغلاق ، وعلى القارىء ان يتوقف قليلا إذن، ويعود من جديد إلى قراءة ذلك المقطع الصغير ليتعرف أن هناك شيئا في تلك القصيدة ، ليراها غير منكفئة، وغير عاصية بان تقال ونستمعها . فهيم السليم يضع قدما قوية في عالم الكرامة الانسانية، عالم الفرح والمسرة، عالم الفراشات والغيوم والورد والعصافير والظلال. عالم القسوة والإيثار والانكسار، تاركا الشعرخارج من مخابئه.

ان تجربة الشاعر والباحث المقتدر في شؤون اللغة الفصحى والعامية العراقية ، القادم إلى الشعر من الهندسة ، فهيم السليم ، رغم ما يبدو عليها من ذاتية، وكأنها تجربة خاصة، الا انها تجربة انسان كان شاهدا على الخيبة، وظواهر التسوس التي قادت مجتمع عريق ،الى جهنم  المرارة والانكسار والاغتراب. فاللغة التي عبر بها عن انهيار جوانب عديدة في حياتنا، عكست حالة التقهقر في مشاعر الانسان العراقي بالارتداد، فاصبحت فردية الانسان فردية سائبة، معطلة عن الاحتجاج ضد القسوة والرعب الذي تسلط عليها.انه اشبه من يفكك الصخرة المكابرة بكلمات الحب ، دون ان يريق دمها، حب عاجز، تائه الروح.وهو يدرك بان كتابة الشعر ليست نزهة، نحن إذاً، حيال قصيدة حركة، ومرئيات، وتوهّج لروح معذّبة مليئة بالشكوى. كمن يضع طبقات من اللون فوق قماشة الوحشة. الكتابة عنده  مكاشفة، ومتعالية،لا تضاهيها الا الحرية. يعكف صاحب " احلام فهيم" بفتح افق ممتد أكثر رحابة وحناناً ، احيانا يشبه استراحة النزال بين النصل والمقاتلة، ولا نهاية للأمل. لانه يرى الامل كنقيض جوهري لليأس. فاليأس هنا أكثر حرية من الأمل الرائج. من هنا يأتي الإعجاب بما يقوله وما يجترحه وما يطرحه الشاعر . ومن هنا، يتوجب ان نتعاطف مع حزنه ويأسه ، لانه قادر ان يبتكر الامل اليائس.

أرى إلى الفن والأدب طاقة روحية تحرر الإنسان من مشاعره السلبية تجاه الحياة وعناصرها. وهو، أيضاً، كل ما يدفع الإنسان نحو الحب. ويحقق له الصداقات الجميلة. الإعصار يجرف النهر ويُؤرجح الجسور، غير أنه لا يغير لون الأشجار، ولا يمحو كلمات الحب في القلب. جوهر الإبداع يكمن في شغف متواصل بالصداقة، فهو يصقل الصداقات القديمة ويعقد الصداقات الجديدة.

روما

عرض مقالات: