في اغلب الاماسي – من تلك الاماسي التي ينز من امواق عيونها حزن كل الرجال والنساء يطل صوتها العاتب مولولا –يصفع الاذان ثم يحق الجلود فترتعش ويتسلل بعيدا ربما حتى يصل الدماء فترجرج كماء ألقي فيه ثقل يفور فيها شيء من الاحتجاج –

يودوون لو اوقفوها ولكن “ياسامعين الصوت “ هذه تنقض مدرعة لايقف امامها سد –شيء كالسيل يجرف امامه دعاواهم يهزأ بنخواتهم ينخلها حتى لايبقى منها سوى القش –

تمضي الكلمة تجوس الدروب – تقرع على الغفاة الابواب تهتك حجب المخدرات فتطل وجوههن متسائلة –تلك الوجوه التي لا أدري كم يدفع المرء ثمنا ليراها ولو لمرة وبعدها تنسجم رنة الكلمة مع الليل وهو يتسلل الى الزوايا فتكمل لوحة الصمت الناز بمتاعب الرجال وهي تفتش عن صدر لترتخي عليه ولكن “ياسامعين الصوت” هذه تجر المتاعب جرا من استرخائها لتقف فتطقطق اضلاعها وتتأود وتخرج ناقمة الى الدرب –

يلوي احد الرجال اذن ابراهيم مؤنبا:

أتكون انت من فعلها هذه المرة يا ابن ----؟

ويصرخ ابراهيم محتجا وهو يخلص اذنه: أنا ياعم – انا ؟ --معقول ؟

صحيح انهم يعرفونه ذراع شوارع وهذي المسائل ثوبه الا انه يحتاج الى الكثير من النذالة ليجرؤ على سرقة ارملة مثل “أم وعد “ اكمل ابراهيم دفاعه قائلا:

وماذا ؟ --دجاجة – وما افعل بها ولم اتعود على اكله ؟

تتقافز الضحكات من الافواه ويدق دفاعه المقنع رؤوسهم يملؤها في النخاع حتى القحفة يستدير الرجل قائلا: استغفر الله – الولد صادق هذه المرة على الاقل –

ترى من ابن الحرام ذاك الذي يجرؤ على الفعلة ؟

ذلك يحدث في كل امسية تعود فيها لطفية بائعة الدجاج لتجد ان دجاجة او اثنتين من دجاجها قد سرقت – تصيت عدة مرات ياسامعين الصوت –ياسامعين الصوت –

وتظل الطرقات تشرب هذا الصوت وتتقيأه حتى يجيء الاقتراح:

ام وعد لاتتعبي نفسك – هات كلام الله –

تمسك بيدها كلام الله وتمر على البيوت وعندها يجيء الدور على الصبي –تبقى الشكوك معلقة في ياقته حتى وهو يكمل اداء القسم بلا تلجلج –يسيل الصدق حارا بداخله ( هي قضيته مدافة بقضية الارملة لطفية ) –

هذه المراة التي استحوذ على ثروة يتاماها عم لهم بعد ان استطاع خداع المحكمة -

قصة يعرفها كل الناس ديفت في اعماقه واعطاها انفعالا أخرس ود يوما لو اشركوه في اللعبة لامسك بكفة الميزان التي يزن بها العم ودقها على يافوخه واخرج منها الدود –

وهاهو يقف في اللعبة متهما –يقسم باكثر الكلمات ولكن الوجوه التي تعشق الغبار لاتنفك تنقب في كلماته ومع ذلك ترتسم عليها العجمة وهي تعجز عن ان تجد شرخا يتسلل اتهامها منه الى ان يفتحها الله على واحد من اهل الحكمة فيطوع معلنا:

وما جدوى دفعه لليمين ؟ هذا نجس لايؤثر فيه شيء –

هنا يزيحه عن طريقهم الرجال – تحور تلابيبه ولكن شيئا اكبر يبقى يكبل نفسه

لذا يبقى ابراهيم طيلة الايام يترصد –ويوما يضبطه:

يتلاحم الجسدان في عراك عنيف يرمي اللص الدجاجة على صدر ابراهيم يمسك ابراهيم الدجاجة ويعيدها لليد التي سرقت ويحتد الصراع حينذاك يكل ابراهيم فاللص ولد “عتر” تغذى تغذية حسنة أكسبته جسما قويا –

يفلت من يد ابراهيم ويتسلل –ولكن من يصدقك يا ابراهيم في دعواك ؟

صحيح ان زكي ولد بلاشغل مثلك ولكنه ابن الحاج “أرزوقي” رجل يسعل فلوسا

شاب خريج دراسة واحد لايذكر عيبه وهو يفر من الكليةالناس عادة تغمض عينيها عنه وتفتحها واسعتين في وجهك –

ويظل الشك يفتح كواه في نفس ام وعد الشك في ابراهيم حتى وهي تسمع منه حكايته مع زكي شيء لايصدق وفوق ذاك ففي الامسيات وعندما يجوس نداؤها الدروب وهي تحمل كلام الله –تتعثر خطواتها خجلا ودائرة التحليف تقترب من منزل الحاج ارزوقي:

يخرج الرجل بوجهه الصبوح رجل محترم لايسمح بان ينشر غسيله امام الناس هذا ماتعرفه عنه ام وعد ولكن ابراهيم فيعرف بان النساء يعشن حياة اخرى اثناء غيابه عن الدار يتزين اكثرهن ويقفن في الباب اما الزوجة الشابة فتظل تتلصص الى الطريق من غرفتها العليا تستلم رسائل الاشارة من الولد “مجيد” ابن ام مجيد وهو يروح ويجيء مختالا كاالطاووس –

يكاد ابراهيم يصرخ بغبائها: ام وعد انت ما يدريك ؟ طول نهارك مع الدجاج ولكن شيئا من الحياء يمنعه –

وعندما يطل عليه الحاج، يحمل كتابه معه ويصر ان يقسم امامها بكتابه وهو الكتاب الذي لايقرا فيه غيره – مجلد حتى لم تسقط ورقة منه –

يحني قامته ويتهدج الصوت يملا نفسها مهابة ترتعب (ما كبر ذلك عليك يالطيفة عند الله ) –ترتمي على قدمي الحاج:

لا ياعم – لا – استغفرك يارب –

ياخذ الحاج بيديها بلطف تحس ولكأن يدا تمتد من العلى لتجرها من المنزلق فتعيد قدميها على الصراط – الصراط الذي بعرض الحبل –

ينزل البرد على قلبها فتنطفىء الحرارة التي كانت تتارجح وتنسى انها مسروقة –

تنكفىء في محاولة للرجوع لكن الحاج يعترضها:

ام وعد انا لا ابرىء نفسي ---فوتي على البيت – فتشيه – لكن او وعد تحس وكأن هذه الدعوة شيء يفتح الطريق امام رجليها الى الجحيم فتعود مرتعبة منها –

كان يمكن ان يستمر بناء الرعب متطامنا في نفسها لو لم تشرخه حادثة الامس –

امس وجدت البلدة امامها وقد امتلأت بالجنون وانزرع الحقد في صدور الناس اذ لم يعد شيء اسهل من التهمة –كان كل مايحدث امامها يمكن ان تبرره لطيفة بان الناس قد دخلت اخر الزمان وان الجمال قد نبت لها قرون ولا بد من النطاح وسعيد الحظ ذاك الذي يخرج من هذا الوقت وهو يحتفظ بعقله ليميز االصديق من العدو –

كان كل شيء تبرره في نفسها بان الدنيا ليس فيها جديد هكذا هي دائما “عراك اطفال “ يعتركون ثم يعودون للعب اما الكبار مثلها فينبغي ان يعلو عن هذه المسائل لايتدخلون وعالمها ذلك الذي لايمتد الى ابعد من تخوم محلتها –

ينبغي ان تبقى نظيفة ولتزور وتزار وان افقدها ذلك بعض التضحيات.. كل شيء في هذه الحركة من حولها يحمل سمات السكون المعتادة في هذه الحياة اما ان يذهب الحاج ارزوقي بنفسه الى الحكومة ويشي بابن ام فيصل فيتسبب في سجنه.. حدث هز هذا البناء فاحدث فيه الشرخ.

قالت ام فيصل باكية: ان الحاج فاتحهم قبل مدة حول شراء دارهم فامتنع ابنها وصرخ به قائلا: صحيح انك قادر على ان تشتري كل شيء ياحاج اما ان تشتري إطمئناننا وذكرياتنا في المحلة فهذا ما لاتقدر عليه والدنيا تتسع لي ولك فلماذا هذا الطمع ؟ ومن يومها يبدو ان الحاج خزن توتره وامس استغل صوته المسموع.

وكان الامر سهلا فالولد فيصل يحمل جرثومة معه من ايام الدراسة ونقط السخام تبدو واضحة جدا على الثوب الابيض –وزيادة على ذلك فالمحقق اخرجها من ذمته الى ذمة الحاج –حضر شاهدان واقسم الحاج اولا بكلام الله وعندما خرج نقد الثاني ثمن اتعابه ودارت الدنيا في راس ام وعد سريعا وبانت لها صورة الولد ابراهيم صافية بلا ضباب فتكامل الشرخ –

في هذه الامسية بدأ الشرخ واسعا امام لطفية وهي تجد ان دجاجتها الام قد تركت وراءها فراخها الصغار تصوصء تقافزت الفراخ فوق يديها –غامت عينيها وهي تواجه مهمة اسكات الافواه المفغورة –بحثت في زوايا البيت ولكنها الآثار نفسها التي يتركها الثعلب وراءه كل مرة – لعلعت بصوتها لعلعة كافية لان يفهم الاخرون فتجمعت الاخريات امامها واقترحت احداهن: صيحي:ياسامعين الصوت

برمت لطفية شفتيها بضجر وقالت: لا احد يسمع الصوت –

نشر الخجل رداءه على المتجمعات لصقن عيونهن في الارض – وتجرأت احداهن ان تكمل باحتجاج هادىء: خذينا لليمين

– هتفت باصرار: - لافائدة.

ادارت لطفية ظهرها فبدا طويلا ثم صفقت الباب ورائها بعنف وانطلقت في الطريق طارت عباءتها وحطت متكومة على الارض رفعتها بعصبية لم تعد على راسها هذه المرة بل اكتفت بان حزمت بها خصرها – علق احدهم: ياساتر هذه المرة ستتعارك او وعد مع احد استمرت غير ملتفتة.. سارت حتى وقفت بباب بيت الحاج.. في هذه المرة وقفت الضجة بعيدا لاتجرؤ على الاقتراب.

دقت لطفية بعنف –اخرجت لها طفلة راسها  وغابت الطفلة تنادي.

خرج الرجل مبتسما –قذفت بوجهه كلماتها:

- ارزوقي ابنك حرامي.

حرام يا ام وعد حرام ، لقد ربيته بنفسي.

اي لقد ربيته على السرقة.

انكمش الرجل قليلا ثم عاد وربت يده على كتفها. انزلت يده بحركة ملولة فتراجع الرجل الى البيت –مرت فترة دقت لطفية وصراخها يعلو الباب صائحة:

ارزوقي هذه المرة انا افضحك.

خرج الرجل وبيده كتابه – بسطه امامها وبدا يقسم.احتقن وجهها فدفعت يدها امام مغلفة الكتاب –

هذه المرة لن تخدعني اعطني طريقا الى بيتك.

وقف الرجل بين خشبتي الباب فدفعت جسمه ودخلت. غابت فترة كافية حتى تقترب الضجة منها مستفهمة ثم خرجت وفي يدها الدجاجة مذبوحة تسيل من عنقها  دماء طازجة – هزتها في وجه الرجل عدة مرات في محاولة لضربه ولكن الرجال ابعدوها عنه فاندفعت في الشارع لاعنة وسقط ضوء الشارع على وجهها فبدا ثائرا تنتشر فيه الدماء –عندها تلقاها الشارع، رمت بين ايديهم الدجاجة فتلقفوها بصيحة دارت دائرتهم الهائجة هازجين في باب الحاج ارزوقي:

الثعلب فات –فات ----الثعلب فات فات –

في كل مرة يخرج الرجل يقذفهم بالحجارة ولكنهم يعودون الى الصراخ بدوائر اكبر.

1971

فهد الأسدي / السيرة الذاتية

ولد في قضاء الجبايش - محافظة ذي قار- العراق 1939  وتوفي في 7 - 1 - 2013

خريج كلية القانون والسياسة – الجامعة المستنصرية – 1975

الاعمال الادبية: بدا النشر عام 1960 في مجلة “المثقف” العراقية.

نشر نتاجه الادبي العديد من المجلات العراقية والعربية والأجنبية.

اصدر ثلاث مجموعات قصصية (عدن مضاع 1966 – طيور السماء 1976 - معمرة علي 1995 – رواية الصليب 2008) لديه مسرحيتان معدتان للطبع هما “مافي الهيمان عن دنيا العميان” و”صلوات الانتظار” ومجموعة قصصية رابعة بعنوان “عقدة غوردوس” فيما أعيد طبع مجموعته الأولى “عدن مضاع” في عام 2019 من قبل دار ومكتبة عدنان العراقية وروايته الثانية (دارة الأحسان) عام 2018 من قبل دار النخبة المصرية.

عدت قصته “طيور السماء” لانتاجها كفيلم عراقي للسينما في السبعينات من قبل د. عباس الشلاه الا ان السلطة حالت دون اكمال العمل واجهض الفيلم.

أنتجت الفنانة عواطف نعيم مسرحية “مطر يّمه” عن قصة الراحل فهد الاسدي “طيور السماء”, اخراج الفنان عزيز خيون وعرضت في مهرجان المسرح العربي في بغداد عام 1990 ونالت اهتمام واستحسان النقاد ادى دور البطولة فيها الفنان جواد الشكرجي

ترجمت العديد من اعماله الادبية والقصصية الى اللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية والمجرية واليوغسلافية والكرواتية

زار الاتحاد السوفيتي عام 1977 بناء على دعوة من اتحاد ادباء الاتحاد السوفيتي سابقا.

يعد فهد الأسدي أحد أبرز كتاب الواقعية في العراق، جسد معاناة الأنسان في جميع كتاباته التي عرفت بأدب الأهوار( جنوب العراق ) حيث مسقط رأسه وبقي وفيا لمنهجه في الكتابة والدفاع عن الأنسان المضطهد من قبل الديكتاتوريات والأقطاع والرجعية.

أثارت قصته “الراضوع” عند نشرها في مجلة الأقلام الكثير من الإشكالات وغضب السلطة السابقة.

عرض مقالات: