الصهيونية لم تكن، بالنسبة إليه، أكثر من حركة سياسية لا علاقة لها بسمو الروح .
كان يرفض محاولات جرّه الى مواقف صهيونية لم يقبل أبداً بتبنيها
في صالات متحف روفيريتو التاريخي العريق بمدينة "روفيكو" الشمالية بمقاطعة الفينيتو الايطالية، افتتح معرض للفنان مارك شاغال، تحت عنوان"حتى روسيا العزيزة ستحبني". يحوي المعرض عشرات اللوحات تمثل حقب تاريخية متعددة في حياة الفنان . يستمر المعرض حتى 17 من شهر يانير/ كانون الثاني القادم.
يعتبر الفنان مارك شاغال(1887ــ 1985) احد أبرز الفنانيين الغربيين من الذين امتلكوا ثلاثة وجوه متداخلة، عكست نفسها بوضوح في اغلب اعماله الفنية، وهي: انتمائه الديني اليهودي، ولادته ونشأته في روسيا، وثقافته الفنية الفرنسية ، فقد عبّر في لوحاته عن الفولكلور الريفي في بلاده روسيا على رغم أن كل ما رسمه في ذلك المجال كان منتزعا من ذاكرته كطفل ،هو الذي ترك مسقط رأسه الروسي باكرا ، أما بالنسبة الى الفرنسيين ، فان شاغال الذي عاش في فرنسا وتشرب من ثقافتها وذاق طعم الحرية فيها ، فقد أضاف الكثير الى الحركة الفنية الفرنسية والعالمية ، فهم يعتبرونه جنبا الى جنب بيكاسو رمزا لاستقطاب الحداثة التشكيلية ما بين الحربين . هذا في الوقت الذي ينظر كبار المثقفين اليهود الى شاغال بوصفه الفنان الذي عرف كيف يعبّر أكثر من غيره عن "روح الدين اليهودي"، وعن "رسالة التوراة الغنية بالتعبير الإنساني وبالنفحة الإلهية " ، وعكست لوحاته ملحمة التشرد اليهودي ببعدها الروحي وليس السياسي ، لانه رأى نفسه صاحب رسالة أنسانية هي رسالة الفن.
ومارك شاغال نفسه، في ما وراء كل الألعاب السياسية التي حاولت بين الحين والآخر احتواءه، وكان يقول إنه لئن كان قد عبّر في العديد من رسومه، حقاً عن الروح التوراتية، فإنما كان مسعاه من ذلك التعبير عن رسالة الأديان الروحية جميعها، كرسالة إنسانية ومحبة، مستفيدا من الصدفة البيولوجية التي جعلته يولد من أصول يهودية، من دون أن يشعر بأي رضا إزاء أولئك الذين يعطون انتماءه ذاك أي بعد سياسي.
ابتعد الفنان مارك شاغال طوال حياته، أن يصار الى استيعابه، وفنه، سياسيا، ليس لأنه كان يرى أن الفنان بإبداعه انطلاقا من جذوره ونزعته الإنسانية العامة الهادفة الى خدمة الإنسان والسمو بروحه. وليس سرا أن مثل هذا الكلام كان يغيظ الكثير من رجال السياسة الإسرائيليين الذين دعوا شاغال الى زيارة إسرائيل، ثم تحقيق بعض الأعمال لها، كانوا لا يكفون عن محاولة جرّه الى مواقف صهيونية لم يقبل أبدا بتبنيها. فلئن كانت اليهودية بالنسبة إليه روحاً انسانية يمكن الفنان أن ينصهر فيها ويعبّر عنها بما يفيد الناس أجمعين.
بدأ الرسم عام 1906 في مسقط رأسه حيث كان يرسم على الورق وكيفما اتفق مشاهد تعبّر عن الفولكلور الروسي، قبل أن يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة في سان بطرسبورغ. وهو، مثله في ذلك مثل العديد من الفنانين الغربيين في ذلك الحين، سرعان ما وجد أن عيشه في روسيا يسدّ عليه آفاق الشهرة، فهاجر الى باريس عام 1910 حيث سرعان ما اصبح جزءا من مجتمع فناني" مدرسة باريس" فصادق الشاعر ابولينير والفنانين ، ماكس جاكوب وفرنان ليجيه وموديلياني، ولقد اتاح له ذلك أن يشارك، بلوحاته في "صالون المستقلين". وفي عام 1914 عاد شاغال الى روسيا ليتزوج من بيلا، التي مارست عليه نفوذا كبيرا طوال حياته، غير أن اندلاع الثورة البولشفية (التي تحمّس لها اولا لكنه عاد بعد ذلك وشعر بأن انتماءه اليها سيحدّ من انطلاقته الفنية) دفعه الى التفكير في الرحيل ثانية فتوجه الى فرنسا التي منحته الجنسية الفرنسية عام 1937، الا انه اضطر لمبارحتها قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، هربا من النازيين، فتوجه الى الولايات المتحدة، غير أن وفاة حبيبته بيلا، في ذلك الحين دفعه للعودة الى فرنسا ليصبح فنانا فرنسيا ابتداء من عام 1947، حيث اكتشف خصوبة شموس الساحل المتوسطي في جنوب فرنسا، فترسخ نشاطه الفني وافتتح متحفا فيها الى ان وافته المنية .
لوحات الفنان شاغال التي احتوتها صالات المعرض ، ممتزجة بالأساطير التقليدية واللمسات السريالية الفنطازية التي تتضمن لمسات شاعرية لاتخلو من غرابة، لدرجة أنها تبدو خيالية، فهي مزيج بين أساليب معاصرة ،كالتكعيبية والوحشية والتعبيرية والبدائية،عكسها على سطوح الأقمشة التقليدية والسيراميك، والنوافذ الملونة ، اضافة الى اللوحات المسندية والرسوم التوضيحية للكتب والفسيفساء والأزياء، استند في مضامينها إلى قصص من الإنجيل والعهد القديم. حتى اصبحت سمات خاصّة ومتفردة ، كعلامة فارقة لجميع اعماله الفنية. وتميزت الوانه باتساق المواد التي استخدمها. اذ يحددها العديد من نقاد الفن ومؤرخيه وحافظيه، بثمانية الوان أساسية، استخدمها طوال حياتة الفنية تتجلّى بمقدرته في اختياره المتميّز للون ومطاوعته فنيا للشكل الذي يختاره، لتبدو وكأنها اناشيد للفرح الانساني والاحتفاء بالحياة. وتعكس المجموعة الكبيرة من الاعمال الفنية المعروضة، حرص شاغال الذي ابتكر لنفسه لغة صورية خاصة، على عدم تغيير أسلوبة وتقنياته مع مرور الوقت. غير انه مع ذلك نجح في ابتكار لغة جديدة من الأشكال المشوّهة والألوان الغنيّة والاستعارات الشاعرية الغرائبية التي طوّعها لتصوير معالم الطفولة والصبا الى عاشها في روسيا، ببساطة حالمة وبكثير من الحنين والشغف والبراءة.
كرائد من رواد مذهب الحداثة، وكواحد من فناني المدرسة الرمزية في القرن العشرين، حمل حقائبة التخيلية واغتراباته، في ترحال شخوصه والوانه النقية التي اعتبرت من ابرز خصائصه التخيلية، معتمدا على منهج تباعد البؤر اللونية المشعة التي تتميز باحادية اللون. كان يجهد نفسه في خلق التناغم في شخوص لوحاته بروحانية تصعيدية اشبه ما تكون احلام. وقد ركز في كل موضوعاته التي حملتها لوحاته المسندية الكبيرة، على العائلة والزواج والميلاد والموت بروحانية رهيفة وشمولية ذائقة تخيلية ليس لها حدود . لقد رسم لنفسه طريقا مهنيا متميزا في جميع الأدوات والوسائل الفنية . ولقد تمت الاستعانة بهذا الفنان وفنانين آخرين من أجل تصميم ديكورات المسارح وملابس الممثلين، وذلك عن طريق الجمع بين الفلكلور الروسي وبعض عناصر المدرسة المستقبلية التكعيبية والمدرسة البنائية . في عام 1964 تولى شاغال تزيين سقف دار أوبرا باريس. وفي عام 1969 أقيم معرض شامل لأعماله في باريس ضم أكثر من 500 لوحة من لوحاته أُتي بها من شتى أنحاء العالم. ثم لمناسبة بلوغه الثمانين أقام متحف اللوفر معرضاً بعنوان "الرسالة التوراتية" ضم لوحات شاغال في هذا السياق، كما جرت تكريمات عدة له جعلته يمضي آخر سنوات حياته هادئاً مطمئناً واثقاً من أن رسالته قد وصلت.
خصصت احدى صالات المعرض لاهم أعماله في فترة الحرب العالمية الأولى عندما سافر بين مدن سان بطرسبورغ وباريس وبرلين. وخلال هذه الفترة، تمكن من ابتكار أسلوبه الخاص في الفن الحديث اعتمادا على رؤيته لثقافة الفلكلور اليهودي في أوروبا الشرقية. ولقد قضى شاغال فترة الحرب في روسيا. وكانت ثورة أكتوبر التي حدثت عام 1917 في روسيا سلاحا ذا حدين بالنسبة له؛ حيث قدمت له فرصة وعرضته للخطر في آن واحد. ومنذ ذلك الحين، أصبح شاغال واحدا من أبرز فناني الاتحاد السوفيتي ورائدا من رواد مذهب الحداثة. كما أسس مدرسة فيتبيسك للفنون التي تعد من أبرز مدارس الفن في الاتحاد السوفيتي.
في فترة الستينيات والسبعينيات، اشترك شاغال في مجموعة من المشاريع الضخمة التي تضمنت بعض الأماكن العامة والمباني الدينية والمدنية المهمة. فعلى سبيل المثال، يقوم 200.000 زائر سنويا بزيارة كاتدرائية سان ستيفين الموجودة في مدينة مينز بألمانيا. وقد ذكر في الموقع الخاص بهذه المدينة على شبكة الإنترنت أن السياح من مختلف أنحاء العالم يقصدون جبل سان ستيفين ليشاهدوا نوافذ الزجاج الملون ذات اللون الأزرق اللامع التي قام بها الفنان مارك شاغال. ومن اعماله المهة،نافذة من الزجاج الملون من تصميه في القاعة العامة بمقر الأمم المتحدة . ولقد تم تقديمها كهدية تذكارية في عام 1964 إلى داغ هامرشولد الأمين العام الثاني للأمم المتحدة بالإضافة إلى 15 شخصا آخرين ماتوا معه في حادث تحطم طائرة عام 1961.
ويشاهد الزائر الموقع الخاص بالأمم المتحدة على شبكة الإنترنت، الذي يحوي وصفا دقيقا لهذه الهدية التذكارية التي كانت من الزجاج الملون ويبلغ عرضها 15 قدما وارتفاعها 12 قدما وتحتوي على العديد من رموز السلام والحب، مثل صورة جميلة لطفل صغير يظهر في الوسط ويقبله وجه ملائكي يخرج من داخل باقة زهور. وعلى اليسار، يوجد في أسفل الصورة وأعلاها رموز تعبر عن الأمومة والأشخاص الذين يكافحون من أجل تحقيق السلام. حتى الرموز الموسيقية لم تخل منها هذه اللوحة الزجاجية، وقد تم التعبير عنها من خلال السيمفونية التاسعة لبيتهوفن .
يحوي المعرض مجموعة من اعماله الغرافيكية التي قضى 30 عاما من عمره في اكتشاف أداة الجرافيك التي تصلح بشكل كبير للاستخدام في التمثيل اللوني.فقد قام بتصميم بعض الأنسجة المزدانة بالرسوم والصور والتي تم نسجها تحت إشرافه . جدير بالذكر أن هذه الأنسجة المزدانة بالرسوم ، والتي تم عرض مجموعة منها،كانت أكثر ندرة من لوحاته، حيث لم يعرض في السوق التجارية غير 40 عملا فقط. ولقد قام شاغال بتصميم ثلاثة أنسجة مزدانة بالرسوم لقاعة الكنيست في إسرائيل، هذا بالإضافة إلى 12 قطعة من الفسيفساء التي استخدمت كموزايك للأرضية وقطعة موزايك للحائط.
وفي عام 2007، أقيم معرض لأعمال شاغال في متحف فيتوريانو في قلب العاصمة روما، وقد ضم هذا المعرض بعض لوحاته . وعلى الرغم من أنه كان يهوديا، فقد قام بتوظيف بعض الأيقونات والصور المسيحية في أعماله. وتميز أيضا بأنه كان شخصا حالما استطاعت أعماله أن تلمس الوقائع المريرة للحرب والاضطهاد. جدير بالذكر أن الأعمال التي تم عرضها في هذا المعرض خير دليل على هذه الحقائق الخاصة بأعمال شاغال.