شهدت احدى دورات البينالى العالمي للفنون التشكيلية في مدينة البندقية، تعانق اشد مراحله خصوبة تأملية ورهافة ادائية، من قبل العديد من اجنحة الدول المشاركة وعددها 77، وكذلك من قبل العديد من الفنانين والجماعات وحركات التحرر، والاقليات القومية، لتعرض اعمالها في كالريات المدينة على هامش الفعالية العالمية، ومنها مجموعة الفنانين الاكراد الذين عرضوا اعمالهم في سرادق تاريخي عريق خاص تابع لبلدية المدينة يقع في المركز التاريخي للبندقية.

13 فنانا جاءوا من العراق وتركيا وايران وسوريا،حاول كل منهم الارتفاع بذائقة المتفرج الى اسمى المدارج المعرفية بقضية شعبهم ضمن خصائص التعبيرية والتجريدية ،في اللوحة المسندية واساليب التركيب ( استلاسيون) والفيديو آرت . ويكشف هذا الخطاب الفني ، بعده الوجداني الوجودي الجدي ، وكأن مثل هذه المشاركة، عبارة عن مذكرات يومية تحاول الوصول الى ما يشبه الاعترافات او المذكرات اليومية للانسان الذي يحمل قضية انسانية في داخله، يحاول الدفاع عنها بتمجيدها. وبهذا اصبح للجانب الحسي في اعمال المشاركين ، بهذه الفعالية العالمية ، وما يتبع ذلك من حضور للعاطفة والوجدان، قوى تنبيه ايجابية تمتلك صفات تسجيلية تنتمي الى التاريخ والفعل السياسي والاعلامي لاي قضية من قضايا الشعوب وفي كل بقاع العالم.

 على ضوء المصطلحات التحليلية في الفن التشكيلي، التي يمكن استعارتها من القاموس الغربي الثري، كونه مصدر التجارب الفنية بكل مدارسها وتقنياتها ومعارفها، يمكننا ان نستدل لبعض الخصائص القومية في الفن التشكيلي على جملة الرموز الفنية( الصورة، الكلمة، الصوت... الخ) بما هي فيه من تمثيل لموضوعات عامة عند جماعة بشرية ما. ولكن سوف لن تقابل عروبة او كردية  او تركمانية الفن القومية، وفق ذلك، سوى خصائص ادواته، اي تلك التي تكوّن النظام الرمزي التقليدي المتعارف عليه داخل هذه او تلك من ثقافات الشعوب. ذلك ان الفن التشكيلي في البلدان التي يتواجد فيها عدد كبير من الفنانين الذين ينتمون لقوميات اخرى مثل العرب او الاكراد او التركمان... الخ رغم اهمية العديد من الانجازات التشكيلية لهؤلاء ، يظل في غالبية تجاربه واكبراها مستلهم كبير من الغرب.

ان الفهم الشكلاني للخاصة القومية للفن سرعان ما سيداوله النقد من جانبين. الاول وهو ضمني ويتعلق بقيمة ما هو خاص في الرموز التي يحملها والتي يعكس تحققها اشكالية ما من اشكاليات الماضي، بالاضاقة الى واحدة من ممكنات حلها المتحققة والتي ستصبح بمثابة مواضيع عامة اكتسبت على الاقل من الناحية الشكلية، تماسكا نسبيا جعلها تبدو كما لو كانت اساسا لكل سيرورة لاحقة ابداعيا او تذوقيا على السواء.

اما الثاني،فان العمل الفني المنجز ونحن في طور الزمن ما بعد الصناعي والرقمي، وخصوصا ان الفنون الحديثة توفر هذا التجاوب بين الفن والتكنولوجيا، فان اي عمل منجز من هذه الزاوية يحمل مغزاه من خلال (اعلان) الفنان ذاته عن موضوع عمله وتوجهاته. والحال فان الفنانين الاكراد في هذه الفعالية والذين اختاروا تقنيات مختلفة واساليب تركيبية ورقمية متعددة اعلنوا عن موضوعهم القومي بما قل ودل من مفردات بصرية متداولة في كل ساحات الفن في العالم، وراهنوا على صلتهم الصريحة بالسائد حاليا في الفنون العالمية، متحررين من كل منطق تراثي، وهذا امر يحق لكل فنان ان يوظف في عمله الفني كل ما يخدم مشروعه. وقد ذهب اغلب هؤلاء الى ربط عملهم الفني بادوات بنائية وتقنيات استنادا الى الرأي المتداول الذي مفاده ان كل الافكار جرى قولها في السياسة والاعلام ولايبقى امام الفنان الا كيفية التعبير عنها في اطر مجبولة بانسان اليوم وبعصب قضيته، ولهذا فان هذه الفعالية تصلح لان يطلق عليها اي فنان ما يشاء من شعارات لاتمس طبيعة العمل ومحتوياته. نحن امام معرض خارج نقاط الاثارة الاعلامية السياسية على الرغم من محتوى بعض الاعمال التي يطل من خلالها نقاط الاثارة الى ظاهرة الهوية.

يقول الفنان العراقي الكردي آزاد ناناكلي"اختراق العلاقات التقليدية التي تبدو بعض الاحيان ساكنة، يتطلب مخاطبة الآخر بوسائله، من خلال بنى مختلفة ومتحررة، ولهذا فقد لجأت في عملي المشارك بعمل تركيبي ينتمي الى الفيديو آرت ووظفت امكانيات تقنية عالية المستوى من الكومبيوتر، فاصبح الشكل المرئي والفضاء متوحدان في التكوين، ليكونا وحدة مطلقة بين الشكل، والنص والفضاء"

اما الفنان بالدين( بهاء الدين) احمد وهو ايضا من فناني العراق الاكراد فقد اتجه بعمله التركيبي الذي اعتمد على رسم لوحتين كبيرتين ووسطهما عمل نحتي تركيبي من الحجر ليكون بنية دلالية تخترق ما هو متوقع، من اجل توظيف الخيال لازالة الحاجز من عالم الاثر التقليدي والذهاب نحو عالمية النص البصري وهو يحمل اعترافا بانسانية قضية شعبه واغترابه في الوقت نفسه.

الفنان العراقي الكردي الثالث هو وليد سيتي( مصطفى)، استجاب كلية لشعار دورة البينالى الجديدة" بناء العوالم" فقام بتشكيل عمل تركيبي كبير وعلقه على الجدار ليعلن للاخرين من خلال عنوان عمله جوهر قضية انتماءه القومي، وهي تحمل طاقة ابداعية في الاثبات امام متغيرات الزمن وديمومتها، محققا مؤثرات ادراكية تحول المتلقي الى فعل الكينونة الوجودية. وهو بهذا التوجه تمكن والى حد كبير من اختراق مذكرته البصرية هذه في ايقاظ الحواس البشرية.

عرض مقالات: