يخيل الي ان أناقة عمارة الروّاف المطلة على نهر دجلة من جهة شارع ابى نواس تتبدى في الطابقين السابع والثامن، اللذين تشغلهما مجلتي والمزمار، هذا النوع من المكان يحفل بالصداقات، وحسن الخيارات وأناقتها، المكان يبوح بذوق مرتاديه من رسامين وكتاب وإداريين، وإستمرار إيقاعهم في الحياة، ما زالت تلك النشوة السحرية التي كانت تمتلك حواسي كلما دخلت المبنى، أشهد ثمالته صباح مساء، الجمال كله يسكن ها هنا، أراه الأن كما لو كان يسير معي كظلي، ربما أسأل نفسي وأجيبها بمن يرثي وطناً ضائعاً في بحر متلاطم من التواريخ والذكريات.
كل الاسماء في المبنى أشبه بالبيوت المتعانقة، وجدت مفرداتها في اللون والسيناريو والخط، بدأت عملي في المجلة كخطاط للسيناريوهات والعناوين، سبقني بهذه المهمة الفنانان الصادقان الخزرجي والصائغ، وحميد ياسين، ثم عبد الحسن، وكريم سلمان، وإلتحق بالقسم الفني الشاب القادم للتو من الكوفة بلاسم محمد، ليتدرب في هذا الميدان، وفي الوقت نفسه يواصل دراسته في معهد الفنون الجميلة، وفي القسم كذلك سعدي الموسوي الذي يمنحنا صوته الجميل في أوقات الظهيرة ألفةً وأنساً، مع أفضل (نقر إصبعتين) لثامر الخفاجي، الفنانون مخلد المختار وصبيح كلش وعادل ناجي ورحمن اطيمش مازالت تجاربهم لم تنضج، لينافسوا الرسامين الكبار في المجلة، طالب، فيصل، صلاح، وليد، مؤيد، ضياء، رحيم، عصام، بسام.
العمل في المجلة منذ بداية تأسيسها، كان المفتاح للدخول إلى عالم الصحافة، وسواء نشرت وكتبت عن تجربتي الأولى مع إبراهيم السعيد، صانع التجربة، أو بقيت الذكريات في طي أوراقي، فان هذه التجربة تتخذ صيغة حلمية، أو لقطة من فيلم، أو مقطعاً من فصول لسمفونية خالدة.
اعود لدار ثقافة الأطفال مديرا عاما، عام 2008، بإعتقادي انه المكان الصح الذي كنت أحلم في إدارته من جديد، ليس هو إختياري، لكن سعادة إستثنائية غمرتني، ربما عشت كذبة العمل والوظيفة بعد 2003، كان يتعين علي تصديقها في ساعة صحو، فالخراب الذي أصاب مؤسسات الدولة جميعها، والثقافية على وجه الخصوص، وضعني في منعطف أو مأزق يصعب الإفلات منه من دون خسائر، ولاسيما ان الدار تحمل أفقاً مفتوحاً على تجارب ثرّة مفعمة بالعنفوان والغنى، علينا ان نلملم الأوراق ونعيد ترتيبها في ظل تخصيصات مالية سنوية، تكاد لا تكفي لإصدار ثابت للمجلات، وإحياء النشاطات والفعاليات التي تهتم بالطفل، إلتمسنا من الاخ شفيق مهدي الكاتب المعروف في هذا الميدان ان يعود لرئاسة تحرير المزمار، بعد أن أُقصي عن العمل لأسباب لاعلاقة لها بثقافة الأطفال. ومن ثم توجهنا الى السيد برهم صالح نائب رئيس الوزراء حينذاك، مع وفد من العاملين في الدار، وقرر تخصيص 100مليون دينار، كدعم تستطيع الدار ان تلتقط به أنفاسها وعافيتها التي غادرتها منذ سنوات، وتوفر بعض إحتياجاتها من أجهزة كومبيوتر ومولدة كهربائية، وأثاث ومستلزمات عمل أخرى، كان وقع هذه(المكرمة) في أوساط العاملين في الدار إيجابيا وترك أثراً طيباً في نفوسهم، وأعاد لهم الأمل في أن تستعيد الإصدارات حيويتها وإستمرارها، ومضاعفة كمية المطبوع منها، وكان حجم الأحلام كبيراً لدى مدير الدار وقد أسرف في خياله، وهو يشعر بالإمتلاء والزهو، اعتقاداً منه برد الدين لهذا المشروع الذي قدًمه كصحفي وخطاط ومصمم، منذ سبعينات القرن الماضي، أوكأنه حقق منجزاً عظيماً سيخلده التاريخ، سيكافأ عليه، على الأقل بكتاب شكر من المسؤول الأعلى للوزارة، في حين لم يترك هذا الحدث أي صدى في وزارة الثقافة، بدءاً من الوزير إلى أدنى مسؤول فيها، ولم يكن يعلم المدير العام ان خطوته تلك قادته الى أن ينزوي لوحده في غرفة ضيقة في الطابق الخامس من بناية الوزارة، بلا عمل أو مهمات، بعد أن قرر الوزير نقله الى ديوان الوزارة (بناء مقتضيات العمل)، بعد فترة عمل لم تتجاوز (حمل إمرأة).
مع كل تلك المعوقات والمؤمرات، تبقى تلك التجربة جزءاً من المسرّات الدنيوية بالنسبة لي، مضمخة بالعاطفة والحب والمؤانسة الصافية، انها تعيد حرارة الحياة نهجاً ويقيناً، ومعها ذكريات أولئك الفتية العشاق الذين منحوا التجربة الدفق والنواميس التي لا تزول، وإفتدوها بجهدهم الجميل والنبيل، للأسف الشديد ها نحن نرثي هذا المجد المضاع..

عرض مقالات: