نادرة هي الأفلام الهوليوودية التي تتحدث عن المسحوقين في المجتمع الامريكي وان كانت قصة هذا الفيلم (شكل الماء The shape of water) تأخذ منحى فنطازيا في إطارها العام، الا ان تفاصيل الفيلم غنية بالكثير من المفاصل التي تتناول الظروف التي تعيشها شخصيات تعيش على هامش المجتمع كالزنوج والمعوقين وعمال الخدمات.
الشخصية الاساسية في الفيلم هي شخصية إليزا (قامت بأدائها الممثلة سالي هاوكنز ببراعة مذهلة) وهي شخصية فتاة بكماء يتيمة تفتقر لابسط ملامح الجمال الشكلي وتشتغل عاملة تنظيف في احدى المنشآت البحثية السرية العائدة للمخابرات الامريكية خلال فترة الصراع السوفيتي الامريكي وفِي ذروة الحرب الباردة خلال الستينات وازمة الصواريخ الكوبية المعروفة المخرج المكسيكي جيرمو ديل تورو الذي ركز في استنطاق المشاعر المكبوتة لهذه الفتاة المهمشة من خلال لقطات قريبة تدخل عالمها اليومي منذ لحظة استيقاظها الصباحي وإعدادها لفطورها البسيط مع ربيبها وهو عجوز رسام ومزور وثائق طريف مرورا باستحمامها الصباحي كلعبة يومية لذيذة مرورا بركوبها القطار باتجاه المؤسسة السرية التي تعمل بها كعاملة تنظيف الشخصية المسحوقة الاخرى هي زميلتها الزنجية في العمل زيلدا (الممثلة اوكتافيا سبنسر) والتي يستخدمها المخرج كمترجمة لافكارإليسا البكماء (تسمع جيدا لكنها لا تتكلم )في تعاملها مع الآخرين في العمل يرصد الفيلم من خلال علاقة العاملتين حجم الازدراء والتمييز الذي كان يتعرض له الزنوج في تلك الفترة ، فكل عمال التنظيف في الفيلم هم من الزنوج في حين لا يظهر زنجي واحد بين كل موظفي وضباط المنشأة السرية العسكرية زيلدا المتذمرة من حالها وبؤس حياتها مع زوجها الكسول تكشف من خلال الحوارات التي تدور خلال فترة تناول عمال التنظيف السود لغدائهم البسيط عن الكثير من السلوكيات الاستعلائية التي يمارسها البيض بحق العاملين بحوارات طريفة محملة بالكثير من السخرية المرة إليسااالبكماء لا تعنيها كل هذه الامور فهي تنسحب في فترة الغداء الى مكان منفرد تتناول فيها بيضة الفطور وهي تشغل غرامفونا صغيرا تصغي فيه لأغنيات تلك الفترة التي تحبها، وهي حين تعود مساء لشقتهافلا يشغلها غير مشاهدة الأفلام والأغاني السائدة تلك الفترة وتصغي لثرثرات ربيبها العجوز وهي تضحك وتمارس الرقص على أنغام الأغاني.
في هذه المؤسسة تقوم المخابرات الامريكية بدراسة كائن خرافي برمائي تم العثور عليه في غابات الإمازون والذي يعده سكانها الأصليون بمثابة اله لهم الجنرال ستروكلند (الممثل مايكل شانون) المسؤول عن ترويض هذا الوحش البرمائي يمارس معه أقصى درجات القسوة (لأسباب غير مبررة دراميا حسب اعتقادي) حتى ان هذا الحيوان ينهش إصبعين من أصابع يد الجنرال ويقطعهما خلال احدى ممارسات التعذيب التي يمارسها معه.
شخصية الجنرال ستروكلند تمثل اليمين المكارثي الامريكي المتغطرس والمتوجس من كل العاملين في المنشأة كما يرشح من سياق الحوارات، شخصية متعجرفة حتى في تعامله مع زوجته الرقيقة (يكتم تاوهاتها خلال العملية ويفرض عليها ان تكون خرساء عند المضاجعة لانه يحب ذلك ! وهو الامر الذي سيدفعه مرة لاشتهاء إليزا البكماء ومحاولة استدراجها لفراشه لكنها تنفر منه فيناصبها العداء والكراهية والاستفزاز خلال العمل) تكتشف عاملة التنظيف وجود الوحش في احد الأحواض خلال قيامها بالتنظيف فتأنس اليه رغم شكله البشع (قد نتذكر هنا أسطورة الحسناء والوحش لكن صناع الفيلم حولوا الجمال الشكلي المفروض ان تحمله الممثلة الى جمال اخر يتمثل بطيبةوطرافة هذه الممثلة) تقدم إليسا بيضة الفطور التي تجلبها معها للوحش فيتناولها منها ثم تشغل له الغرامغون الصغير المحمول فيأنس للموسيقى وتنشأ بين الاثنين ألفة ستتصاعد خلال مسار الفيلم هناك طبيب مختص كان من المفترض ان يقوم بتشريح الوحش لمعرفة تركيب جهازه التنفسي ذو الطبيعة المزدوجة البرمائية سنكتشف انه عميل لجهاز الكي جي بي السوفيتي (واقع الامر فان هذه الثيمة ولقاءات هذا الطبيب بمسؤوليه الروس علنا في امريكا وما يتبعها من احداث تتعلق بمحاولة هروبه فيما بعد وقتله من قبل الجنرال ستروكلند كلها لم تكن مبررة دراميا باعتقادي) الحوارات والمشاهد الإنسانية الأهم في الفيلم ،بعد حوارات العاملتين زيلداوإليزا،هي تلك الحوارات الصامته التي ستجري بين إليسا والوحش ،فهي حوارات وإيماءات تتسم بشاعرية عظيمة تشكل ميزة الفيلم الاساسية حين يطرق إسماع إليسا محاولة الجنرال ستروكلند لقتل الوحش لاستنفاذه أغراض الدراسة حسب اعتقاده، تصاب بصدمة كبيرة وتقرر إقناع ربيبها بتزوير وثائق تخول دخوله المنشأة السرية لإنقاذ الوحش وتهريبه ، وخلال عملية التهريب التي يعلم بها عن طريق المصادفة الدكتور عميل الكي جي بي والعاملة زيلدا فيساعدانها وجدها في تحرير الوحش ونقله الى شقتها ووضعه في البانيو ( كل عملية التهريب هذه غير مبررة دراميا وفيها من تراكم المصادفات ما يضعف بنية الفيلم كثيرا ولكننا نبرر قبولها لأجل الغايات الفلسفية المنشودة من عملية الخلاص ،قبولها على مضض !)
اجمل مشاهد الفيلم هي تلك التي حدثت بين اليزا والوحش في شقتها والتي تخللتها عملية وصال عاطفي بين إليزا والوحش في البانيو وأروعها تلك الاغنية الخيالية التي أدياها معا حين اطلق الحب صوتها، وتلك الرقصة التي تذكر برقصات الفترة الذهبية للأفلام الغنائية الهوليودية والثنائي العظيم فريد استر و جنجر روجرز ان التعابير والإيماءات التي عبرت بها الممثلة سالي هاوكنز خلال هذا الجزء من الفيلم كانت تستحق بجدارة جائزة الأوسكار لافضل ممثلة لكنها أخطأتها للأسف الجزء الأخير من الفيلم والمتمثل بمطاردات الجنرال ستروكلندلاليزا والوحش وهروبهم باتجاه البحر هو جزء تقليدي من مشاهد المطاردات السائدة في عموم الأفلام الامريكية بما في ذلك مشاهد قتل إليزا والوحش من قبل الجنرال ومن ثم انبعاث الوحش الإله من الموت واحتضانه جثة إليزا والغوص بها تحت الماء باستثناء تلك المشاهد الشاعرية القصيرة لهما تحت الماء فهي متقنة وبديعة بشكل يكفر عن تقليدية باقي المشاهد رشح الفيلم عام ٢٠١٧ لثمان من جوائز الأوسكار فاز بثلاثة منها هي جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل انتاج.
الفيلم يتمتع بحوارات ناضجة وطريفة في تناولها لمختلف الثيمات الفلسفية او العاطفية او السياسية والاجتماعية وهي واحدة من فضائل هذا الفيلم اضافة للموسيقى التصويرية الرائعة وتقنيات التصوير المبهرة خاصة في المشاهد التي تجري تحت الماء.

عرض مقالات: