يكاد الكاتب والباحث د. علي محمد هادي الربيعي ان يجعل جهده البحثي مقصوراً على الأدب المسرحي العراقي، فضلاً على كتابات ثرَّه وانيقة نشرت في المجلات والصحف العراقية في مجالات ثقافية مختلفة.
لقد امتاز الربيعي بأسلوب جميل في البحث والكتابة، ولغة رشيقة انيقة، تحلق بك في اجواء جميلة، وتنقلك من هذا الواقع الحياتي المؤلم، إنه يكتب برومانسية حالمة، تجعلك تجد في الحياة بعض ما تستحق أن يعيش من أجلها الإنسان واضعين في الحسبان قساوة الظروف، وانهيار القيّم النبيلة وتصدعها، وأثر الخيبات الحياتية، والانتكاسات التي مني بها المجتمع العراقي، إن لغة الربيعي الأنيقة والرومانسية جاءت نتيجة قراءاته المعمقة في كتب التاريخ والأدب المسرحي ومصادره، فضلاً على روحه الرهيفة الشفيفة الحالمة.
إن محبة د. علي الربيعي لأدب سليم بطي المسرحي ونتاجه المعرفي، جعلهُ يجد في بطِّي ايقونة، يتوجه إليها بالاحترام والتقدير، لذا رأيناه يذب عنهُ عاديات الزمن في البحث والكتابة.
عرفت الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي المولود في مدينة الحلة باحثاً حصيفاً محلقاً، ومدوناً وموثقاً لتأريخ المسرح العراقي منذُ اهتمامه الجاد في هذا المجال، ذا نفسٍ طويل في البحث والتدقيق والتوثيق، نشر بعض مؤلفاته في مجال تاريخ المسرح العراقي منها : (تاريخ المسرح في الحلة، الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح، المسرحيات المفقودة، محمد مهدي البصير رائد المسرح التحريضي في العراق، اسكندر زغبي زجالاً ومسرحياً، مسرحيات نعوم فتح الله سحار المفقودة، المسرح المسيحي في العراق، اسهامات يهود العراق في المسرح، شالوم درويش وجهوده في فضاء المسرح العراقي، أنور شاؤول وجهوده في المسرح العراقي، ثورة الزنج في المسرحية العربية، وكتابه الأخير سليم بطي فتى المسرح العراقي) ، كما عرفته باحثاً دؤوباً في الأدب والثقافة، ولا أدل على دأبه وقوة شكيمته في البحث والتنقيب عن النصوص المسرحية لفتى المسرح العراقي سليم بطِّي.
الدكتور علي الربيعي لهُ نفس طويل في البحث الذي يحتاج إلى صبر ومطاولة ومصاولة، والغوص في بطون المصادر والمراجع والمضان بحثاً مصحوباً بكثرة التنقل والتوقل، ومراجعاً، ذلك على النسخة الأم التي غالباً ما تكون الأقدم تاريخياً، وقد اعتمد في أكثر مؤلفاته على الصحف اليومية التي هي أكثر دقة في التواريخ ونقل الأحداث ومواعيد اقامة المسرحيات، ومثال ذلك كتابه الأخير "سليم بطِّي فتى المسرح العراقي"، الذي اعتمد على الصحف والمجلات في تأليفه. لقد قرأت الكتاب بدقة ومتعة وشغف، الكتاب الذي أمضي الدكتور الربيعي أكثر من سنة في كتابته، وقد صدر مؤخراً
عن اتحاد الأدباء والكتاب السريان في العراق/ اقليم كردستان هذا العام، ويقع في 405 صفحة الكتاب جاء خِلّواً من دار الطبع أو الطبعة والفهرست، وهذا من ضرورات النشر وأولياته، فضلاً عن خِلّو الكتاب من عنوان الفصل الرابع وقد يكون قد سقط سهواً، يذكر الدكتور الربيعي حول معاناته في توثيق السيرة الذاتية لسليم بطِّي وهو شقيق الصحفي رفائي بطي، مع العلم أن روفائيل بطي في مذكراته (رفائي بطي ذاكرة عراقية) من اعداد وتحقيق فائق بطِّي لم يذكر عن سليم بطي أي شيء برغم أن سليم بطي كان يكتب في جريدة ""البلاد"" وفي باب فنون، حتى اتصل الربيعي بباهر سامي رفائيل بطِّي ليدلي له بالمعلومات عن عم أبيه سليم بطِّي وعن ابنائه الذين ما زالوا يعيشون منتشرين في اقطار الأرض.
كانت صعوبة البحث في توثيق تاريخ سليم بطي المسرحي والروائي بسبب عدم توفر تلك النصوص المسرحية المطبوعة والمخطوطة في المكتبات العامة والخاصة، فقد أخذت من وقت الربيعي السنوات في البحث على وقع ضالته يقول: "تحقق لي أن وجدت نصا لمسرحية (تقريع الضمير) في أكداس من الكتب العتيقة عند بائع للكتب المستخدمة في شارع المتنبي.. وبعد سنوات أخر من التفتيش عثرت على نص مسرحية "الأقدار" في كدس من الكتب على قارعة شارع المتنبي، والنص المطبوع الثالث حصلت عليه من خلال بحثي في أعداد مجلة "الحاصد"، فقد نُشرَ فيها. أما النص المطبوع الرابع (طعنةً في القلبِ) فلم أحظ به برغم أنني انفقت في البحث عنه سنوات طويلة، وبقي عصياً على الوجود وربما في قادم الأيام ينفرج لنا الأمر ونحصل عليه".
هناك نصوص ثلاثة مخطوطة ألفها سليم بطِّي في مجال المسرح وقدمها في وقته على خشبة المسرح هي مفقودة منها ( ضحايا اليوم) و(المساكين) و(خدمة الشرف)، والمسرحية الوحيدة التي ظفر بها الدكتور الربيعي هي مسرحية (ضحايا اليوم) التي وجدها في خزانة المرحوم الأب الدكتور بطرس حداد في كنيسة مريم العذراء في الكرادة الشرقية ببغداد.
قسم الكتاب الى خمسة فصول وملاحق، الفصل الأول اعتنى بحياة الراحل قائلاً في ص16 :"سليم بن بطرس بن عيسى بن عبد النور بطِّي المولود في مدينة الموصل سنة 1908م من أسرة مسيحية الديانة، كان والده يعمل حائكاً وكانت الاسرة تعاني عسر الحال وشظف العيش، فهي تضم خمسة أبناء" ، كان تسلسل سليم الثالث بين أشقائه ، إذ أكمل سليم بطي دراسته الابتدائية في مدرسة مار توما للبنين في الموصل ، وانهى دراسته الاعدادية في سنة 1927م ، يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 19 قائلاً: "ووجد نفسه مرغماً على أن يعمل لإعالة نفسه بعد أن بقي لسنوات طويلة يعتاش على شقيقه (رفائيل بطي)، وأغوته الصحافة وأخذ يكتب في صحيفة ("البلاد") في باب الفنون والأدب، وكان يترجم المقالات ويكتب النقد الفني، وبدأ يكسب قوته من عمله، ثم انتقل إلى العمل الحكومي حيث عيِّن موظفاً في مديرية التقاعد العامة في بغداد، وبقي يعمل فيها حتى وفاته في بيروت في الرابع عشر من شهر ايلول سنة 1953م".
أما الفصل الثاني من الكتاب فقد احاط الدكتور الربيعي بمنجز سليم بطِّي في فضاء النقد المسرحي، وقد بذل الربيعي الجهد الكبير في جمع كل ما كتبه بطِّي في هذا المجال، حتى تم نسخ نقوداته على الهيئة نفسها التي حلت بها في مظانها، فقد كتب سليم بطِّي مقالاته النقدية في الصحف العراقية ومنها جريدة "البلاد" تحت اسم خفي (كين) وفي أحيان أخرى يوقع باسمه الصريح، يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 35 قائلاً :"وما يميز مقالاته انها تلابس الموضوعات المكتوب عنها بشكل لا يضاهيه فيه أحد من النقاد في ذلك الوقت. فهو قد اشتغل في المسرح ممثلاً ومخرجاً ومؤلفاً، واتقن تقانة تامة معارف المسرح وسبر اغوارها، وعندما بدأ بكتابة النقد المسرحي ترشحت كتاباته عن دراية ومهنية عالية... وآخر مقالة نقدية له كانت تحت عنوان (مسرحية توتو فرقة فاطمة رشدي) التي نشرها في جريدة "البلاد" بعددها 736 في 20 تشرين الثاني 1946".
أما الفصل الثالث فضم دراستين مهمتين كتبهما سليم بطي في علوم المسرح معارفه، نشرتا في جريدة "البلاد" العدد 190 بتاريخ 25/6/1930 وفي مجلة الحاصد العدد 9 بتاريخ 25/6/1936، في وقت لم تكن جذور للفن المسرحي وتغلغله عميقاً في العراق. ونسخ الدكتور علي الربيعي هاتين الدراستين نسخاً مقابلاً، ووضع لها الحواشي التي اراد من ورائها أن يزيد من ثرائها، كانت الدراستين عبارة عن مقالتين طويلتين كتبهما بطي ونشرهما في سلسلة حلقات في جريدة "البلاد" ومجلة الحاصد، يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 112 قائلاً :"وأحسب أن الذي دفع بطِّي إلى كتابة هاتين الدراستين هو واقع المسرح العراقي في وقته... فجاءت الدراستان لتردما الفجوات التي قابلت وتقابل المسرحيين في مسالكهم، وتنتشلا المسرح العراقي من واقعه المسطح، وتؤشر عوامل النهوض والارتقاء بفني التمثيل والاخراج". وقد جاءت كلا الدراستين نتيجة لما تراكم عند الراحل سليم بطِّي من خبرة ميدانية وشخصانية خاضها في مجال المسرح المدرسي في فرقة مدرسة التفيِّض الأهلية، كما عمل ممثلاً ثانوياً في فرقة جورج أبيض أثناء زيارة الفرقة إلى العراق سنة 1926م، وعمله كممثل مع الفرقة الوطنية بوصفه أحد مؤسسيها سنة 1927م، فضلاً عن اطلاع بطي المباشر على اداء عزيز عيد مع فرقة فاطمة رشدي في زيارتيها المتكررتين إلى العراق سنة 1929م/ و1930م، والتعرف على آخر مستحدثات المسرح، ومشاهداته العروض المسرحية العراقية، كل ذلك اكسبه دراية وخبرة فنية عالية، فضلاً عن نبوغه بوصفه مبدعاً.
وقد حملَ الفصل الرابع من الكتاب المقالات الصحفية التي لاحقت سليم بطِّي ومنجزه المسرحي بالدراسة والتحليل والنقد، وهذه المقالات كتبت بأقلام أدباء وصحفيين مجايلين لهُ، لكن هذه المقالات حفظت منجز سليم بطي من المسرحيات التي ضاعت أخبارها، وتعد صفحات مجهولة في مسرد المسرح العراقي، كما بحث الدكتور الربيعي عن منجز الراحل بطي المخطوطة والمفقودة من خلال اعلانات الصحف عن منجز بطي المسرحي ونشاطات الفرق المسرحية العراقية.
فقد نشرت مجلة الحاصد في عددها السادس بتاريخ 4/6/1936 مقالاً حول مسرحية بطي (خدمة شرف) التي مثلت من قبل فرقة بابل يوم الخميس الموافق 28/5/1936 برئاسة محمود شوكت وعضوية جميل عبد الأحد وابراهيم معروف ونعيم الجواهري وغيرهم من الممثلين، التي تم تقديم عروضها في بغداد والبصرة والعمارة. كما نشرت جريدة "البلاد" بعددها 590 الصادرة بتاريخ 9/6/1935. أما مجلة الحاصد فقد نشرت دراسة قدمها الاديب والناقد شالوم درويش حول مسرحية بطِّي (طعنة في القلب) بعددها 31 الصادر بتاريخ 26/11/1936، لكن لم يرق لسليم بطِّي ما كتبه الناقد شالوم درويش، فقام بالرد عليه بمقال مطول وجهه إليه بعنوان (طعنة في القلب رد المؤلف على الناقد) التي نشرتها مجلة الحاصد بعددها 33 الصادرة بتاريخ 10/12/1936. ثم علق على مسرحية (طعنة في القلب) الناقد عبد الله رمضان.
وقد نشرت دراسة حول رواية بطي (المساكين) التي مثلت على مسرح ألف ليلة في جريدة العالم العربي العدد 5419 الصادرة بتاريخ 14/7/1945. وقد قامت بدور (ترفة) الفنانة المعروفة السيدة نظيمة ابراهيم، وكان النقاد يتأملون لها مستقبلاً باهراً في التمثيل على المسرح وفي السينما.
أما الفصل الخامس من الكتاب فقد خُصص للنصوص المسرحية التي ألّفها الراحل سليم بطِّي وحظيت بثلاثة نصوص مطبوعة ونص مخطوط واحد، ونسخت هذه النصوص من قبل الباحث د. الربيعي على الهيأة نفسها التي حُررت بها، وقد زاد عليها الباحث تعليقات وحواشي من وراء وجودها. ثم اتبع الدكتور الربيعي الكتاب بملاحق ثلاثة لإثراء الكتاب وتثبيت معلومات مجهولة ذات صلة بموضوعاته.
إلا أن الراحل سليم بطِّي مع كل ما كتبه حول المسرح من تأليف ونقد مسرحي، لم يغب عن الحضور في فضاء القص العراقي، بل كان مساهماً فيه بمائزة فكتب القصة مبكراً، يذكر د. الربيعي في صفحة 24 من الكتاب قائلاً: "فقارئ قصصه سيجد انها عالجت موضوعات أخلاقية وتربوية، وعادات سيئة استحكمت في العديد من العائلات العراقية، مثل الخيانة والإدمان والزنا والقتل والسرقة والاغتصاب وغيرها. وكان يعرض هذه الموضوعات من خلال سلوكيات الشخصيات المتضادة، ليتحول في الأخير "إلى السلوك القويم الذي يعده المثال الذي يُحتذى به، ومن قصصه : (قلب صخر) نشرت في جريدة الوطن العدد 86 سنة 1929م، و(الزوج السكير) نشرت في جريدة "البلاد" العدد 4 سنة 1929م، و(ضحية رأس السنة) نشرت في جريدة "البلاد" العدد 45 سنة 1930 و(تحت ستار الظلام) نشرت في جريدة الاخبار العددان 12/ 14 لسنة 1931، و(في العرس) نشرت في جريدة "البلاد" العدد 35 لسنة 1929، و(الأثر الدامي) نشرت في جريدة "البلاد" العدد 123 سنة 1930، و(تقريع الضمير) نشرت في جريدة "البلاد" العددان 133/ 134 لسنة 1930، و(ضحية) نشرت في جريدة "البلاد" العددان 200/ 202 لسنة 1930، و(المهاجر) نشرت في جريدة التقدم العددان 213/ 214 لسنة 1930، و(في النادي) نشرت في جريدة الزمان العددان 277/ 278 لسنة 1930، و(تحت ستار الظلام) نشرت في جريدة الاخبار العددان 12/ 14 لسنة 1931، و(هو الحب) نشرت في جريدة الاخاء الوطني العدد 1 لسنة 1931، و(اميليا) نشرت في جريدة الاخاء الوطني العددان 3/ 4 لسنة 1931، و(صياد النساء) نشرت في مجلة الحاصد العدد 32 لسنة 1932، و(غرام عذراء) نشرت في جريدة الاخاء الوطني العدد 291 لسنة 1932، و(الزوجة العذراء) نشرت في مجلة الحاصد العدد 35 لسنة 1933، و(قلب مكلوم) نشرت في مجلة الحاصد العدد 3 لسنة 1936، و(بنت الطحان) نشرت في الاديب العدد 1 لسنة 1946، و(صادجة) نشرت في الاديب العدد 2 سنة 1946" . كانت جميع قصص سليم بطِّي التي نشرها في الدوريات العراقية راكزة على تصور موضوعات اجتماعية واخلاقية.
اعتمد الكاتب والباحث الربيعي لدعم كتابه على وثائق مصورة للراحل سليم بطِّي ولصور صحف نشرت اعمال بطي المسرحية والقصصية والنقدية في ذاك الوقت. الكتاب وثائقي جميل يدل على أصالة محتد، ووفاء يجعلنا نتوسم الخير في كاتب وباحث سيخلف ويواصل الدرب من بعد الجيل الذي سبقه، وإن الجهد الذي بذله الربيعي لا يذهب بين يدي الله والناس.
وأنت إذ تقرأ هذا الكتاب لتعجب من موسوعية الأديب الباحث علي الربيعي ودراسته الجميلة، وأنا اقرأ هذه الدراسة القيّمة، كنت ألمس شكوى الدكتور من قلّة المصادر وكثرة اشغاله الوظيفية التي تهدر ايامه، فإن الباحث الربيعي كان له مع كل كتاب يصدر حديثاً قد ألمَّ بجميع أبعاده.
أرى ان هذا الكتاب يعد من أروع ما كتب عن حياة فتى المسرح العراقي سليم بطِّي الذي صور فيه الصورة الحية لا السرد الجاف لبعض الأحداث في حياته.