إن التنقيب عن الخيوط الرابطة بين مواضعات الكتابة من جهة ومتعلقات القراءة من جهة أخرى، يتطلب حفرا، يلملم شتات المتخيلات في هيئة مشهدية. والغاية إيجاد بدائل تخييلية تغيّب الوقائع الحقيقية وتؤطرها بهالة غرائبية تجعل القارئ أمام تحديات المقروء ومتاهات المكتوب فلا يكون بوسعه إلا التنقيب عن المجهول والحفر في المعلوم بغية الخروج من متاهة النص.
وقد يصل الحفر في الأبعاد ما قبل النصية إلى الأبعاد ما بعد النصية في عملية مرور ثقافية تواصلية تسعى إلى عقد الصلات الزمكانية. ووفقا لنظريات علم تاريخ الأجناس فإن العالم في طفولته كان بسيطا يمزج الواقع بالخيال فلما بزغ فجر العلم أفل نجم السحر والخرافات فماتت البراءة والفطرة والسذاجة وضاع الفردوس وصار مفقودا ولهذا ظل الإنسان دائما يبكي على ماض غابر لا عودة له.
وبذلك امتلكت الشعوب الوعي الذي مكنها من امتلاك هويتها وتشكيل سلالاتها البشرية مستيقظة من سباتها .. ولم يعد الإنسان كائنا مغمورا أو منصهرا في قطيع داخل جماعة بشرية بل صار جزءا من أمة ومن دين وأعراف. وما ملحمة كلكامش السومرية وأبطالها الأسطوريون؛ إلا تجسيد لذلك التحول الحضاري في بناء المجتمع الإنساني.
والرواية هي الوريث الشرعي الذي احتفظ من الملحمة ببعض عناصرها، ومنها تجسيد الأبعاد الميثولوجية وهذا ما نجده في رواية (في انتظار فرج الله القهار) للروائي الراحل سعدي المالح عن "دار الفارابي" 2006 التي حفلت بتوظيف الميثولوجيا في شكل منظومة تصارع قيمية استمدها الكاتب مما ترسخ من موروثات في البنى الاجتماعية العراقية.
وتحفل الرواية بمستويات بنائية متعددة ومنها عتبة السرد، التي فيها يؤدي العنوان دورا إيهاميا يخاتل القارئ في اقتناص الدلالات المترشحة من تضافر العنوان مع الإهداء (إلى العراق أرضا وشعبا وتاريخا) ضمن ما يسمى (المناص التأليفي) أو مناص المؤلف.
ومن العنوان الرئيس تترشح ثيمة الانتظار مؤكدة الصراع بين الخير والشر محققة وظيفة تحريض على الإيمان بغد قادم ينعدم فيه الشر ويتحقق الخير ليكون:
1) صراع الشر مع الخير = زمن الانتظار
2) سيادة الخير على الشر = زمن اللا انتظار (فرج الله)
والرواية مكتوبة بلغة سردية يتغلب فيها التوجه الرمزي في التعامل مع تاريخ العراق المعاصر على توجهات أدبية أخرى، والرواية ايضا رواية منفى بسبب الاحتدام الحضاري الذي يتمحور حوله البناء السردي ما بين الشرق والغرب.
ومن حسنات الرواية دمجها الحلم بالواقع، ملقية ضوءا لامس تاريخية الصراع الطائفي في العراق هو ما أخذت بعض الروايات العراقية بعد 2003 تعنى بالخوض فيه وتجسيد ملابساته.
واتخذت الرواية موضع الرصد شكل نسيج محبوك تبدى في الفصل الأول في بنية سردية موضوعية راويها خارجي يسرد بزاوية نظر ورائية وبضمير الغائب. أما المروي فعبارة عن سيدة عجوز تبحث عن رجل غائب ذي هيئة نورانية ملائكية. وتكون نقطة الالتقاء بينهما في الكنيسة، وتكتنف الأحداث أجواء روحانية متخيلة هي عبارة عن رؤى متصورة تصدح في ذهن السيدة العجوز تجعلها تتصور الشمعة شجرا يتحرك في فضاء الكنيسة فوق رؤوس المصلين الصامتين المستمعين إلى الإنجيل ينقلها لنا راو عليم. أما الاسترجاع والاستباق اللذان يقعان على يمين ويسار درجة صفر السرد الزمنية بمفهوم جيرار جينيت؛ فان توظيفهما جاء متفاوتا بحسب بنية الزمن السردي.
وقد كان الاسترجاع بنوعيه الخارجي والداخلي الأكثر توظيفا فكانت الاستذكارات تتداعى في ذهن العجوز عائدة إلى زمن سابق على زمن القص لتروي قصة ضمنية في القصة الإطارية تدور حول ضياعها حين كانت طفلة صغيرة وقد حصل أن صادفت أجواء تشبه تلك التي تعيشها العجوز اليوم في كهولتها.
ويعضد البنية التشبيهية بين القصة الضمنية والقصة الاطارية، الحبكة القصصية للسرد ويؤازرها ضمن مسار قصصي ثيمته الانتظار وبطلته المرأة العجوز نفسها. ويقابل زمن البحث الأول للطفلة عن أمها، زمن البحث الثاني للأم عن ابنها، ومن ثم زمن بحثها الثالث عجوزا عن خلاص لروحها.
وتبقى الشمعة في الأزمان الثلاثة (الماضي/ الطفلة والحاضر/ الأم والمستقبل/ العجوز) معادلا موضوعيا للخروج من الضياع وبلوغ لحظة الفرج في اللقاء بالغائب المنتظر، كما تحمل تداعيات الأسئلة ـ في مخيلة العجوز عمن عساه يكون فرج الله ـ على استرجاعها ذكريات قصة أخرى ماضية حين تعرض زوجها لحادث سيارة فظهر ذلك (الوجه النوراني ).
وكُرس الفصل الثاني بصيغة السرد الذاتي وبضمير المتكلم ليسرد لنا قصة الابن واللقاء الذي حصل مع فرج الله وقد نقل إليه رسالة من والدته العجوز. ويشغل المكان (الفندق والمقهى) مساحة مناسبة من فضاء الرواية ويكون الوصف السردي عنصرا مهما من عناصرها.
وإذا كانت الصور الوصفية السابقة تحقق وظيفة إيهامية داخل السرد؛ فإن وصف جسد الراقصة/ الأفعى كانت له وظيفة تفسيرية. وقد شكلت القيثارة ثيمة محورية يدور حولها السرد هي بمثابة معادل موضوعي للحنين في زمن البحث والانتظار، عبر تتالي السرد أولا على لسان العازفة التي تمسك القيثارة، وثانيا على لسان السامع الذي يجلس مستمعا إلى العزف وثالثا على لسان راو ذاتي. وهذا الفهم المترشح من نظرة الثقافة الغربية للرجل الشرقي الباحث عن شهرزاده دومًا، عكسته العازفة بشكل درامي وقد جمعت مادية الغرب بروحانية الشرق في أجواء ساحرة تمثلت في السموفونيات التي تعزفها. وترمز شخصية شهرزاد الى الدور المزدوج للمرأة، كمهددة بالموت على يد الرجل وايضا المهدِدة باستلاب روحه في إطار ثيمة البحث والانتظار.
وتكثر التداعيات في دواخل المرأة / العازفة ليندمج هذا التداعي مع الوصف المكاني فتتشكل صورة فانتازية، ثم يستمر سرد القصة منطلقا من المكان نفسه ولكن بصوت راو متكلم آخر هو الرجل المستمع للعازفة، ويتصاعد صوت القيثارة في أجواء روحية تشي بتصورات حلمية يشوبها أو يصنعها الخيال الجامح فيتخيل نفسه يعدو سريعا باتجاه بلاد عصية، وينتهي الاستحضار للواقع الماضي ليعود إلى قصة العازفة.
ويبقى العزف هو المحرك للذكريات ويتغلغل الاستحضار التخييلي في الأعماق، فيصنع الخيال صورة سردية حاضرة لواقع أليم، ويتحول الكون كله الى مادة للاستهلاك وسوق لاجتلاب اللذائذ ومعترك لاصطراع المصالح ومسرح لانتصار الأقوى واستعباد الضعيف.
ولكي تدعم الرواية هذا المنظور القيمي للتصارع الإنساني بين الخير والشر، فإن الرواية تستعير قصة أخرى إلى جنب القصة الأولى هي قصة الحرب والخراب الذي تعرض له البلد أبان عقد الثمانينات في سرد واقعي فيه كثير من الحوارات الخارجية ولكن بمفارقات ساخرة. ثم تنتقل الرواية إلى مفترق قيمي آخر يتناول مفارقات صورة المرأة في الشرق عنها في الغرب. وأن العمل في الغرب يأخذ شكلا آخر عنها في بلاد الشرق من خلال قصة سفيتا كأنموذج كنائي لمخاطر عمل النساء في خدمات سياحية خارج أوطانهن. ويقود هذا المفترق القيمي السارد إلى الحديث عن فئة إنسانية أخرى تمتهن كرامتها متمثلة برجال يبيعون أعضاءهم البشرية في سوق لبيع الجواري حيث الشعراء ينبرون لمدح بضاعة زبائنهم فهذا رجل يبيع عينا واحدة وشاعر يمدح عين الرجل الباقية.
ويزداد هذا النوع من التوظيف الفانتازي ليخلخل واقعية السرد، مع تداعيات باطنية وحوارات خارجية. وتستمر الرحلة المتخيلة للروح في بحثها عن الخلاص، فتغادر إلى سامراء لتزور محل الغيبة، ولترى علامات الظهور واضحة، وتعود الروح الهائمة الضائعة تبحث مرة أخرى عن مستقرها في إطار ثيمة اللحن والموسيقى، وفي أجواء حلمية تجيبه الموسيقى.
وتسترجع الروح لحظات زمنية قاسية لانفصالها الفانتازي عن الجسد، وتتوالى الاسترجاعات لوقائع الجريمة الإنسانية المتمثلة في المقابر الجماعية التي جمعت الضحايا رجالا ونساء وأطفالا .
وتأخذ الأرواح نفسها بالتحدث عن المشاعر التي اختلجت فيها لحظة الجريمة حيث قُتلت الآمال والأحلام وخلفت الآلام والعذاب ثم كيف استقرت في حفرها بظلام وبرود ثم هامت تلك الأرواح في البلاد كلا لموطنها. وتستعير الرواية في هذا الإطار حادثة قتل مشابهة ضد الإنسانية متمثلة في محنة السبي البابلي.
وكانت محاولة السارد الختامية في العودة إلى الصفاء الروحي هي إشاعة أجواء الانتظار عبر الصلاة على القائم المنتظر ليتلاشى الوهم ويتحقق اليقين القدسي بظهور الفرج. وبذلك يستقي الخطاب السردي مادته الثيماتية من تفاصيل الحياة المعاصرة او ميثولوجيتها، راسمًا تفاصيل دقيقة شريرة وخيرة، فيها دعوة لجعل الإنسان أكثر وعيا لواقعه.