حرص سجين مصري كان ينام بجواري في عام 1991 في سجن التسفيرات، على أن يأخذ ديوان شعر باللهجة المصرية مني، بعد أن تعرف على سجين مصري، اسمه "زبيبه" وأعطاني ديوانه الشعري خشية أن يضيع، لأنه سيحاكم بعد ايام مع ثلاثة من المصريين بتجارة المخدرات، قرأ لي بعض أشعاره بالعامية المصرية، وكان يحضر بيننا الشيخ امام، واحمد فؤاد نجم، وقد أهدى اشعاره إلى طفلته التي ولدت قبل عام.  أعدم هذا السجين أمام أعيننا صبيحة يوم سبت، بعد محاولته وجماعته الهروب من السجن يوم الجمعة بحفر حائط السجن، لكنهم فشلوا. قال المصري الآخر الذي طلب مني الديوان الشعري: إن هذا الديوان إرث مصري، وأنا مصري، أرجوك أن تعطيني إياه، ربما أُوصله الى طفلته التي أهدى الديوان إليها. هذه حالة صغيرة من سجين غير عراقي، انتخى له سجين مصري ليحتفظ بإرثه، فبين آلاف الحالات التي مر بها الشيوعيون العراقيون؛ السجناء منهم والمعتقلون، وهم يتوزعون بين سجون العراق في مدنه وقراه، في مراكز الاعتقال والشعب الحزبية الخاصة، البيوت السرية، ومقرات أحزاب السلطة، وقد انتجوا مدونات: شعرية، قصصية، روائية، نقدية، يوميات، مذكرات، قصائد شعبية، رسوم، أفكار، مسرحيات، ...الخ، وأستطيع القول: أن هذه الذاكرة المشتتة في ربوع العراق واحدة من مدونات الحياة السياسية للحزب الشيوعي العراقي، وجزء حي من تاريخه الذي كتبه السجناء كأفراد أو جماعات.  وقد احتوتها جدران السجون وخباياها، وحملتها النسوة وهربنَّها للمجلات والصحف العربية، وبدت تلك الشذرات المتباعدة جزءًا من تاريخ الذاكرة الجمعية للعراقيين. وعند قراءة البعض منها تعثر فيها على نوى أفكار لمشروعات، فالبدايات تولد مكثفة كأي نواة تختزن في جذورها وجذوعها وأوراقها وأغصانها ثمارًا، أملًا في أن تجد طريقها لضياء الغد. ما تزال تلك البدايات مفقودة بالنسبة لنا وللأجيال العراقية الشابة، التي لا تعرف الكثير عن حياة السجناء أو الكيفية التي كانوا يقاومون بها جلاديهم، حين انتجوا بها خطواتهم الأدبية والفنية ليكونوا لاحقا جزءا من ركب الثقافة الوطنية، واذا كان للبعض أن كتب شيئًا على أوراق دفاتر"البافرا"، أو خط بمسمار حائط السجن الكونكريتي، ورسم عليه ادعية وصلوات واسماء المغدورين، فالكثير منهم كان يرددها مع الآخرين كجزء من حضور مكثف للذات، من هناك، من تلك الأمكنة المظلمة، من الأرض التي ارتبطت بأمل الثورة، وبالصوت الدفين، كان ثمة أدب عراقي من نوع خاص ينبت في هذه الأمداء، ويعلن عن ميلاد أدباء ، شعراء ، رسامين، مغنين، نقادًا، مسرحيين، ولقوة المواقف، ولحفظ الذات من الانكسار والتشتت كان الجميع يحتضن الجميع، في ندوات ومساجلات وحوارات، وقد يختلف البعض أو يتعمق بالحوار، فالصورة الكلية لعراق الغد كانت تنمو مرافقة للعشب الذي يزيَّن نظر السجناء، كأمل في اخضرار الغد. هذه الثروة الثقافية المدون منها والشفاهي، إحدى أهم مصادر معرفتنا بطرائق التفكير في مراحل قاسية من حياة المناضلين المثقفين العراقيين، وكان لي في هذا المجال عشرات الحوادث، بالإضافة إلى حادثة السجين المصري، وما دونته شخصيًا أنا على جدران غرف الأمن العام الخاصة عام 1978. سأروي ثلاث حوادث فقط، الأولى: حين عثرت على مجلة تصدر في سجن الحلة، قدمها لي أحد الرفاق الذين كنت مسؤولًا عنهم، فقدمتها بدوري للنشر، يوم كنت عضوًا في هيئة تحرير "الثقافة الجديدة"، واستلمها المرحوم هاشم الطعان، مجلة فيها قصص وأشعار ومقالات، لسجناء سجن الحلة، وكانت برقم وتسلسل مما يعني أن صدورها كان شبه منتظم إلى حد ما، وقد أفرغت معظم موادها ونشرت كاملة. الا أن المجلة الأساس لم تعد لي، بحجج ليست مقنعة. الحدث الثاني، حدثني به يوسف الصائغ، يوم  كان سجينًا في نقرة السلمان، حين فكر في كتابة روايته "المسافة" التي يتحدث فيها عن حادثة هروب السجناء السياسيين من (نقرة السلمان)، وكيف كان يعرف بالحدث إلا أنه لم يشارك فيه وارتضى الموقف الخاص به، لأنه كما يقول: كان مختلفًا مع الجميع، هذه الرواية القصيرة نضجت في السلمان، وكتبت لاحقًا، وكانت صورة أخرى لثقافة السجون، ومن قرأ رواية "القلعة الخامسة" لفاضل العزاوي، وغيرها من الروايات العراقية المتميزة، كانت نواتها قد بدأت ونمت في السجون، وكتبت لاحقًا. الثالثة ما جلبناه من سجن أبو غريب يوم زرنا القاص محمود جنداري، انا ومجموعة من الأدباء، وكان حسب الله يحيى معنا، فتسلل إلى غرف السجناء ليجلب مسرحيات من الفنان المخرج عبد الوهاب الدايني، ما اردت الوصول إليه، إن فترات السجون والاعتقالات، ولدت مئات الإنتاجات الخصبة، بعضها استكمل لاحقًا، والكثير منها بقي حبيس الذاكرة. أين هي الآن؟ هل ثمة حاد يحدو بالمسجون من هذه المدونات كي يخرجها من قمقم الذاكرة؟.. هذا هو السؤال الذي يقلقني، فما حدث يومذاك هو إرث ثقافي فيه الكثير من الصور النضالية والإنسانية، حري بشبابنا، أن يتعرفوا على ما كان آباؤهم يفكرون فيه.

عرض مقالات: