نشرنا الجمعة الماضية، قصة الاستاذ عائد خصباك “من الطارق؟” واليوم ننشر المقال النقدي المتعلق بها.


أبدا بمقولة عامة مستخلصة من تجربتي الشخصية مع المكان، كلما فكر القاص بالأمكنة تفكيرًا زمنيًا اكتشف فيها امكانية أن يخلق منها شخصيات جديدة، قد لا تكون مثل هذه النتيجة ملائمة للبعض، خاصة أولئك الذين يأتون بشخصيات من المجتمع ويسكنوها المكان، كما لو أن المكان عباءة يلبسونه لها، ثم يبدأون برواية العلاقات المختلفة مع أشياء المكان، ويسمون ذلك قصة. فنقرأ كلمات عن افعال اليدين والعينين والقدمين وهي تجوس المكان لتصلح هذا أو لتنقل ذاك وتعد هذا حدثًا، أو لتستبدل هذا بذاك، حياة روتينية للشخصيات عندما تجد نفسها في الأمكنة، في حين أن التجربة الابداعية ترشدنا إلى أن الأمكنة هي التي تسكن الشخصيات، وأن الشخصيات تصرف جل عمرها كي تكستشف نفسها من خلال الفعل المكاني في داخلها، لأن الأمكنة اقدم من الإنسان فتاريخ الإنسان متضمن الأمكنة. ولو أعدنا قراءة الأدب وفق هذه النظرية لوجدنا أن تاريخ الشخصيات ليس هو ما مرت به من أحداث فقط، بل هو ما صنعته الأمكنة لها من أحداث. ثمة اقتران وتاثيرمتبادل. والسؤال من يسكن من؟ بيت البحر لايفكر إلا بالبحر، وبيت الجبل لا يفكر إلا بالجبل، الفن التشكيلي كشف هذه العلاقة بين السكن والطبيعة، وهكذا يؤثر المكان في بنية الشخصية. السيدة هالكة ريشتر التي تسكن في سكن ملحق بجوارالمستشفى، كانت بحياة يومية منتظمة، محسوبة الوقت والحركة، ليست هي حياة السيدة فقط، بل هي حياة الأمكنة نفسها، لولم يكن هناك عمل يشترط نظامًا لما وجد مكان يضبط ايقاعه. هذه المرة سيكون المستشفى مكانًا للإصلاح، كما يقول فوكو، وحقل إنتاج للتغيير كما يشير بورديو لأمكنة الحقول، المستشفى يعالج الأمراض، فهو سلطة، وانه يفرض نوعًا من السلوك الغذائي والصحي، وفي الوقت نفسه يرتهن بالتقاليد والأعراف التي تعين هويته. لذلك يحتاج إلى تنظيف دائم وتغيير في سلوك من يسكنه، هكذا اعطى القاص أهمية لأن تكون المستشفى مكانًا للتغيير وليس مكانا للسكن فقط، وأن من ينظفه ويعيد تكوينه وجماليته، ليس من أهل الدار، إنما من اللاجئين الآسيويين، الذي يملكون روح العمل والأختباء خلفه، الامر الذي يميز الامكنة بما تفرزه على حالتين: حالتها الداخلية وقد خضعت يوميا لتغيير عبر التنظيف، وحالة من يسكنها أن تكون مشمولة بالتغيير أيضًا. وكما يبدو يتسرب العجزلشخصيات الأمكنة، بينما يتجدد المكان باختفاء الشخصيات التي تتواكب معه، فالتغيير يزحف على الماضي كله بما فيه الإنسان. قد تكتفي القصة بهذا الحد من التأويل، على حضارة أوربية بها حاجة إلى التغير بوساطة امكنة العلاج، ولكن هذه المرة ليست بالطرق التقنية والعسكرية والرأسمالية، إنما ببث الروح في اوصال مؤسساتها العلاجية، وتغيير ما كان سائدًا فيها وفي حياة الناس وبعث الامل لأن يكون الطارق على الباب هو حلم المستقبل. ألم تفكر السيدة هالكة ريشتر بذلك؟
بالتأكيد أن من يقرأ هذه القصة يشعربمتعة استثنائية، ثمة شخصية وان حددت باسم وهوية عمل، تتجاوز الأسم لتصبح انموذجًا لكائنات بشرية تجد في المشاركة مع الآخرين، طريقة لفهم الذات، ذاتها الدفينة في أمكنتها، حقيقة ثمة صعوبة أن نتعرف على ذواتنا من دون فعل صادم، هذه السيدة التي تمتهن الطب، وترعى المرضى، مما يتيح لها أن تتعامل مع أناس في منتصف الطريق إلى النهاية،(بين المرض والصحة)، كفيلة بأن تكون رؤيتها متوازنة، نحن لا نلمس عن تعاملها مع المرضى غير مايقوله الراوي عنها، في حين نلمس لغتها التجسيدية مع غرفتها وملحقاتها وأشيائها المرتبطة بجسدها، ارتباطا حميميا، لكنه ليس ذلك الارتباط الذي لايمكن تبديله، وهذه الموضعة الحاضرة من حياتها يكثر فيها فعلا الماضي والحاضر، أما المستقبل فقد غاب في اشيائها التقليدية، وهو ما حفز العامل الآسيوي ان يوجه نظره لتغيير مواضع هذه الأشياء، بما فيها حمالات صدرها واشيائها الداخلية، فلامسة الجسد حسيا جزء من مهمات العلاج. إذا فالقصة حكاية عن أمرأة عاشت سنوات مع زوجها ثم طلقت منه، وبعد طلاقها أعادت لبيت الزوجية روحه ورممته وأحدثت فيه تغييرات: فجددت الحديقة والنافورة والطلاء، والارضية الزرقاءن وستائر النافذة، هذا الترميم علاج جسدي لها، يرتبط بمهنتها، حيث بدت للقارئ انها دقيقة في مواعيدها، منتظمة في سياقات حياتها، تحسب الزمن كأي كائن غربي يهتم به ويحوله إلى راسمال، الأمر الذي يكشف عن انسجام بين نظامين: نظامها الذاتي وهو ما صرفت حياتها لتفعيله ،ونظامها الاقتصادي كمهنية في المستشفى. فالدقة سيدة الرياضيات النفسية والاجتماعية، وأصبحت مجالًا لأن يرى القارئ هذه النظام لا يقتصر على الميدانين النفسي والعملي لها، بل يشمل المكان والأثاث، الجسد المفرد والجسد يوم كان، ومتعلقا الستائر(الثياب)، وانتظام الضوء،(الزمن) وأوقات التأمل،(الرغبة في العودة الى بيتها القديم) ودقة استثمار المفردات اللسانية،( تنظيم العلاقة معها) والخطوات العملية،(دقة في الموعد ولبس الجوارب واعداد فنجان القهوة والنظرإلى الساعة). وكأنها كائن بذكاء صناعي يروم تلقين البشر حقيقة أن الحياة ليست إلا تأمل متوازن بين أزمنة شخصية في الأمكنة المعاشة.
بمجيء المنظف، وهو بالتأكيد تعبير رمزي عن “المكنسة”، وفي مكان هو “المستشفى” سيشهد علاقتين: تنظيف وتغيير، ولان فن القصة القصيرة مركز، ومقتصد، ربط المؤلف عبر المكنسة، بين هالكة ريشتر والمستشفى، إن تجديد المكان يتطلب تجديد العاملين فيه، هذه الرغبة لا تنفذ باحالة العاملين على التقاعد، بل بالتغييرات الداخلية التي ترتبط بالجسد، شأن التغيير المنتقل من علاج الجسد إلى الاهتمام بكساء الجسد، لذا اقترنت الأشياء الجديدة التي تشتريها السيدة هالكة ريشتر ، بمجيء العامل كي يراها، لكن العامل اختفى وبقيت آثاره كلمات تتداولها الألسن، شأنها شأن الفلسفة، لايمكن أن ياتي الفيلسوف لكل مكان كي يقول أن الكرة الأرضية متحركة، إنما يتداول الناس هذه المقولة، ةتصبح حقيقة تكتب على ابواب علماء الفلك.هكذا اخفى الكاتب صورة المنظف وبقي فعل التنظيف، وهو ما يجعل الاشياء الساكنة في أفول حتى لو اشتريتها اليوم من السوق. إذن كان كل شيء كما هو في انتظام، إذا لما يكتب القاص عنها هذه الحكاية؟ لو كانت هالكة ريشتر في مجتمع غير أوربي، لما أثارت إلا نوعًا من التأمل، ربما لرشحت إلى منصب مدير المستشفى لانتظام حياتها ودقة عملها. في عالمنا الشرقي غالبًا ما تنهض القوى المختفية في الشخصيات بفعل صدمة، عشنا حياة تغيب فيها دواخلنا عن امكنتنا ونهتم بمظاهرنا، وتكون بعد الخمسين عجائز، لأن الوعي بالزمن الذي مرَّ، وحده من يسند اللغة، هذا ليس تحليلًا سايكولوجيًا لشخصية السيدة ريشتر، ولكن الشخصيات القصصية الناجحة تلك تكون على وشك الأفول، أنها في حالة “نصف حياة- نصف موت”، حتى لو كانت في الخمسين ، فرتابة العالم تفرض زمنية ذاتية على الشخصية، وعليها أن تبني بلغة أخرى وجودها من جديد، فالمستشفى تتحول من علاج جماعي إلى علاج ذاتي، لن تكون هذه المرة لغتها خاصة بها، بل أصبحت لغة زميلاتنها أيضا، حيث مرَّ عامل التنظيف/التغيير، عليهن، ثم اختفى، ثمة استغراب معاكس للإستشراق، ياتي هذه المرة من المهاجرين، فهذه المجالات تفتح مسافة للشخصيات كي تتأمل أن ما مر بها، ليس ثابتأ، وفي الوقت نفسه تفتح مجالًا للآخر كي يمارس دوره في التغيير، لم تعد الشخصية القصصية مجرد صوت فردي، بل اصبحت صوتا لقضايا غير مألوفة، فالشخصية الأوربية لا تعاين ذاتها من خلال افعال وقضايا الآخرين، دائمًا ما تلجأ لتاريخها وتحولاتها الدراماتيكية كي ترى انعكاس العالم في داخلها، ثم تعيد تشكيل ذاتها من جديد، لأن العالم لم ينته بعد، هذه المابينية للمسافة واحدة من جدليات (إعرف نفسك) السقراطية ولكن بزمن يكون العلاج فيه ليس للمرضى، أنما للشخصيات التي لم تتغير. ويبقى الباب منتظرًا من يطرقه، عندما يكون ثمة ضوء دائم يتسرب من تحته معلنًا وجود حياة يقظة وراءه. وعودة إلى جملتي الاستهلال- فضلت السيدة هالكــه ريشتر البقاء في غرفتها صباحـًا إلى آخر دقيقة متاحة لها، وأخر جملة في القصة- يبدو أن السيدة العجوز لم تأو إلى فراشها بعد!. يكون المكان/المستشفى، هو الحدث الذي يحسسنا بثيمة ضوء اليقظة الدائم.

عرض مقالات: