يبدو أن مصطلح صناعة الثقافة ليس من أفكار المفكرين التقدميين، إنما هو من أفكار المؤسسة الصناعية والتجارية الرأسمالية التي تتحكم بالسوق، والتي حولت الثقافة والفنون إلى سلعة يمكن أن تباع وأن تشترى، شأنها شأن أي منتج آخر، وما يزال مفهوم صناعة الثقافة يتداول بيننا حينما نؤكد أن بنا حاجة إلى ثقافة جماهيرية، عندئذ نجد من ينبري إلى القول  بأن وجود مؤسسات ثقافية يمكنها أن تصنع ثقافة للعراق، لأنها تملك مالا وملاكات، مثل هذا الفهم محتقر في الدراسات الفلسفية والحداثية،  عندما يكون مفهوم الصناعة الثقافية يتجه نحو الهيمنة وشراء ذمم بعض المثقفين. والكثير من المفكرين اشاروا إلى أن مفهوم الصناعة الثقافية يرتبط بالرأسمالية وليس بالإنتاج الفردي أو المؤسساتي الذي يعنى بالتعبير عن اوضاع اجتماعية وإنسانية مختلفة. وأول من أدان هذا المصطلح، هما: أدرنو وهوركهايمر، في كتابهما "ديالكتيك التنوير"، بوصف هذا المفهوم جزء ًا من هيمنة المصالح التجارية الرأسمالية على الثقافة. فدبجا هذا المصطلح، لإدانة ظاهرة رأسمالية وتحقيرها، "تعبيرًا عن فزعهما إزاء الثقافة الجماهيرية من أثر أو مفعول يتمثل في حثّ إدراكنا على ما هو قيم ثقافيا" ص 23 فالتر بنيامين.

ومع أن مصطلح " صناعة الثقافة" مدان من قبل الفكر التقدمي لارتباطه بالرأسمالية، وبالكيفية التي تحول الثقافة إلى سلعة دون مراعاتها القيم الجمالية وأهدافها الشعبية، إلا أنه فهم في بعض الدوائر الثقافية والفلسفية على أنه مضاد للثقافة الشعبية، التي تدعو لها التيارات التقدمية. والحقيقة ليست كذلك، فما يراد بصناعة الثقافة هو إدانة تسليع الثقافة الشعبية وتوظيفها لأغراض السوق أو الأيديولوجيات المهيمنة. وليس لتطوير قدرات الناس العاديين.

من أدوات صناعة الثقافة رأسماليًا، وسائل الإعلام المختلفة: صحافة، تلفزيون، واعلانات، وقد انتقدت التيارات التقدمية هذه الصناعة الثقافية، لأنها أصبحت أدوات بيد الفئات الرأسمالية الطفيلية لإشاعة الأيديولوجيا الخاصة بها، كما هو حادث عندنا في العراق بعد 2003، عندما أصبحت هذه الوسائط الجماهيرية تشترى للتعبير عن فكر الفئات السياسية المتحكمة، كي تتحكم بالناس العاديين عن طريق الثواب والعقاب، من خلال محاكاة؛ أما غرائزها الدينية، أو غرائزها الجنسية. ونجد الفضائيات في الشرق الأوسط من أكثر الفضائيات في العالم اهتمامًا بالدين والجنس والمناطقية والقومية، وبغض النظر عن عدد الفضائيات في العراق، والتي أصبحت مثار تندر شعبي، فهي فضائيات وصحافة تؤكد الطابع الصناعي للثقافة الجماهيرية، بحيث نجد فضاءات لا يعنيها أي مشكل اجتماعي أو اقتصادي أو فلسفي، أو إنساني، غير أن تملأ ساعات بثها بقراءات دينية وتعازٍ وقراءات من الكتب القديمة، وتنبيه الناس ان عليهم التكفير عما اقترفوه من ذنوب. وكأنها تريد أن تعيد مشاهديها للعصور التي كانت ضمن سياقات الزمن قد انتجت ثقافة دينية متميزة لكنها لم تنتج رؤى مستقبلية للإنسان. إن مفهوم الصناعة الثقافية ذو بعد واحد إذا ما اتجه إلى تأكيد اتجاه سياسي أو عقائدي واحد، في حين أن الثقافة الإعلامية والفنية المرئية والمسموعة، واحدة من أشكال الانفتاح على التجارب الإنسانية وعلى تطور العلوم في ميادين مختلفة.

النتيجة واضحة عندما تكرر الصناعة الثقافية المنتجات نفسها، فتصبح كما لو أنها تريد أكساء الشعب كله رداء معينًا، وهو ما يحصل عندما تشيع صناعة الثقافة أنماطًا من الأقوال والأزياء والتعاويذ والنصوص، مما يعني أن قدراتها الفكرية متكررة ولا تتطور واحتياجات الإنسان، بقدر ما ينظرون إلى حصيلة الأموال التي تدر عليهم.

من يتتبع مسار الصناعة الثقافية في العراق، يجدها من أكثر الحقول سعة، واقلها دراسة واهتمامًا، ففي الوقت الذي تعمد إلى صناعة ثقافة محددة، نجدها تشتري بعض المثقفين ليعملوا في تدوير نفايات الماضي بصيغ معاصرة، فالصناعية الثقافية قد تطلي سطح الأشياء بطلاء جمالي مبهرج، لكنها تعمل في الوقت نفسه على تدمير المتلقي لهذه الثقافة.

عرض مقالات: