من يستقرئ حركة شباب "التك تك" وغيرهم، في ساحات التظاهرات، يجدهم قد انتقلوا من معنى الحياة العادية التي كانوا يمارسونها، إلى معنى الحياة اليومية الفاعلة، حين وجدوا أنفسهم ضمن تيار التغيير الرافض للحياة العادية التي تتحكم بهم. إن ما يمنحه عملهم الضيئل من مؤونة، لايكفي لتحقيق أي تصور عن المستقبل، فهؤلاء وغيرهم من يملأ ساحات النضال الشعبي بطموحات التغيير للانتقال من الحياة العادية إلى الحياة الفاعلة ليسو بطرين، ولا هم طلاب عنف، إنما هم من يبحث عن وجودهم المغيب فلم يجدوا طريقا لتحقيقه إلا بالثورة السلمية. . ولم يقف الأمر بهم عند إرادة أن يعملوا، بل أنهم قد عرضوا أنفسهم لقنابل الموت السام، من أجل "نريد وطنًا"، الأمر الذي يشكل تغييرًا جذريًا لمعنى الحرية، التي غلفت أعمارهم بالعطالة والتكرار، ودفعتهم إلى المخدرات وتشويه النفس، اليوم وجدوا في الحراك الجماهيري صوتهم، أي حياتهم التي فقدوها بالعادي من العمل والتعاليم والتلقين، اليوم وجدوا أن بامكانهم أن يغيروا ليس أنفسهم فقط، بل الشعب كاملًا الذي عاش ستة عشر عامًا بحياة عادية اغلقت عليهم نوافذ التجديد والتفكير والعمل والحرية، ففقدوا وجودهم حيث شريحة كبيرة منهم آثرت الانتحار والموت، خشية أن تتهم برجولتها، أو لعدم قدرتهم على تغيير حياتهم العادية. من يرى حركة الساحة وصخبها وقوتها، يرى ملامح حياة جديدة يرسمها الشباب في أفق المدينة.
دائمًا ما يقال أن حياتنا عادية، ويعنون بذلك أنها اعتيادية تسير كما هي برتابة يومية منضبطة وأحيانا باختلال بسيط، دون أن يؤدي هذا الخلل إلى تغيرها أو تبديلها، وتجد القلة منا من يعي أن الحياة العادية تولد طاقة محتبسة لا تجد مجالًا لتصريفها إلا بمظاهر قد تكون شريرة، فالحياة العادية مملة وشكلية وأحيانًا تكون بلا معنى عندما يتكرر شكلها يوميًا، العنف جزء من عدم تصريف الطاقة.
اقول إن للحياة العادية فلسفتها، وغالبًا إذا مامنعت من تحقيق أهدافها تصبح حمراء، احمرارها بمعنى أن يصاحبها العنف. من يتأمل هذه الجموع الهائلة من الشباب، لايمكنه أن يتصور انهم يبتدعون عنفًا كي يعيشوا، العنف الذي مورس ضدهم هو من أجل منعهم من التفكير بأي تغيير، وأن يبقوا حبيسي إرادات تتحكم بحياتهم، كما تتحكم بموتهم، من يمارس العنف ضدهم يجبرهم على مواجهته بالمثل، ولكن صوت الساحة الواسع، ولافتاتها، وهتافاتها، والحركة الضاجة فيها، هو سلاحهم الجديد، الحرية هنا هي السلاح.
في سياق المعرفة، نجد أن مفهوم العنف يرتبط بالضد من الحرية، والعدالة، وتوزيع الثروة، ومحاسبة الفاسدين، واحترام الرأي، وتغيير الأنظمة، وتمارس السلطة" الحرية" كقوة وعنف خشية أن تفقد وجودها الشاذ. والخلل ليس في كلمة "الحرية" قاموسيًا، إنما في استعمالها، والكيفية التي تنفذ بها.، فالحرية تفهم من قبل الثوار بمعنى العدالة، والنظام وتوزيع الثروة والعمل، بينما تفهم "الحرية" من قبل السلطة على أنها الحق في القمع والقتل: يقرن الشباب الحرية بالكينونة، بينما السلطة تقرنها بالعنف من أجل مراكزها المالية والوجاهية، خاصة وانها تدعي أنها وريثة ممالك الآلهة. لذلك نجد في هذا الحراك ثمة مفاهيم جديدة للحرية: مفهوم الشباب الثوري والوطني، ومفهوم تستثمره السلطة من أجل تثبيت وبقاء القوى الفاسدة والمحاصصاتية والعنفية قائمة من دون تغيير، ومن داخل الوعي الجديد لقطاعات الشباب المختلفة عن معنى الحرية وكيفية تجسيدها عمليًا، تظهر قاعدة لمفهوم الحراك، وهي أن الحراك ليس كلمة، بل هو ممارسة، وقد يكون له حروفه، وكلماته، ونحوه، وصرفه، وبلاغته، وبنية جملته، وعباراته، وكتابته، وميدان اشتغاله، فقد شاهدنا أن الحرية صورة، شعار، هتاف، دم، لافتة، وبقايا طعام المشاركين. بينما الحراك لدى مليشيات السلطة، عبارة عن قنابل الغاز، والهروات، والقتل، والاعتقال، والموت والمطاردة.. ومثل هذا المعنى الجديد لحراك الشباب لا تجده في كتب الدراسة، بل في الساحات التي يرتفع فيها صوت الجماعات المقهورة..