“كنت لأستبدل الثورة بأوليفيا” عبارة وردت على لسان أحد العشاق الكوبيين عشية مقتل حبيبته الثائرة “أوليفيا” في أدغال زاباتا بينما كان يقارع نظام باتيستوتا في جزيرة فينالس، هذا ما حدث في كوبا قبل ستين عاماً من الآن، وهو مقاربة نظرية للثيمة العنفية ونتائجها المدمرة على قناعات الأبطال في الرواية، بينما تكتفي أمّ عراقية تنوح على جثمان ولدها الذي قُتل في الحرب ضد داعش وترمي باللائمة على القدر، لكنّها لم تنطق تلك العبارة على الطريقة الكوبية فتقول “لكنت أبدلك بالعراق يا ولدي”.
كلا الصورتين محاولة للاقتراب من مفهوم الكراهية والحب واستخداماتهما في الرواية، وهما المحركان الأساسيان في الدراما منذ بواكير التاريخ، تارة يطلقون عليهما الخير والشر، وتارة الحرب والسلام، وأخرى الحب والكراهية.
وإذا كانت الرواية، حسب أورهان باموق بمثابة حلم جميل مليء بالصور الغرائبية المدهشة إلى درجة نشعر معها بالحزن حين ننتهي من القراءة ونتمنى أن يستمر الحلم، فإن العنف، أو الكراهية في الرواية، يجعل منها كابوساً طويلاً ومعذباً على الرغم من كم الأدريانين الذي تتسبب في ارتفاعه لدى القارئ.
ولعل المحنة الطويلة، أو الكابوس المخيف الذي بات يعيشه أغلب العراقيين في الداخل منذ عقود ولا يريد أن ينتهي، هو ما أفضى إلى استشراء العنف وتناول مفاهيم الكراهية في الروايات، لا سيما في العقد الأخير الذي أعقب الاحتلال الأمريكي، فثمة وفرة في الروايات المكرسة للحب حسب اعتقاد أمبرتو إيكو، وهو علاقة انتقائية ثنائية ليس للخارج علاقة بها “أنا أحبك وأنت تحبني وبقية العالم مستثنى من هذا الشعور”، أما الكراهية، وحسب إيكو دائماً، فإنَّها شعور منتشر أكثر من الحب، وهذا ما يبرر كثرة الحروب وجرائم السلوك العنصري والديني، والكراهية في المحصلة ظاهرة اجتماعية عامّة.
يقول إيكو بهذا الصدد “حيث قضيت طفولتي في ظل دكتاتورية فاشية، أتذكر أنَّني كنت أُلقَن الكراهية ضد الإنكليز والفرنسيين والأمريكيين وأدعو الناس إلى حب موسوليني”.
إن هذا الانحراف السلوكي غير المحسوس الذي يعترف به إيكو هنا هو ما يؤدي إلى الانزلاق في مخاضة التطرف، لكن هل حقاً بنا حاجة إلى روايات عن الكراهية بعد أن صارت روايات الحب نوعاً من الترف واللاواقعية في عصرنا؟
مثل هذا السؤال يحيلنا إلى الكثير من النماذج الروائية التي استنبطت العنف أو الكراهية لتبتكر لنا نوعاً خاصّاً من الحب المستلهم من الوجع والبشاعة، وفي تقديري لا يمكن تصوير الحب وتمييزه ما لم تكن هناك خلفية من الكراهية والعنف، تماماً كما هو الأمر مع الألوان التي تفقد ماهيتها من دون خلفية بيضاء تبرزها، وليست بي حاجة في الحقيقة لذكر روايات عظيمة استندت إلى مثل هذه التقنية الموجعة، لا سيما وأن اثنتين من أشهر الروايات في الأدب العالمي استندتا إلى العنف هما “الحرب والسلام” لتولستوي والجريمة والعقاب” لدستويفسكي، إلى جانب اثنتين من أشهر الروايات الأمريكية هما ”الصخب والعنف” لوليام فوكنر و”لمن تقرع الأجراس” لأرنست همنغواي، ناهيك عن “مائة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز التي تبدأ بوصف مريع لمشهد إعدام.
ويبقى العنف مكونا أصيلا وشديد الحضور في حياتنا، وبالتالي في مخيلتنا وما تبدعه من أعمال، وآلية تمثلها إبداعياً وحجم تأثيرها على البناء السردي للروايات ودورها المحوري الذي يقترب أو يبتعد عن الثيمة العامّة للعمل الروائي، حسب مقدار تأثر الأخير بتفصيلات الأعمال العنفية نفسياً ودرجة اختمارها في وجدانه، وكما هو العنف الخارجي الواقعي يكون العنف الداخلي المُتخيّل أو المستلهم في الأعمال الإبداعية.

عرض مقالات: