العتابة، لون من الوان الشعر الشعبي العراقي، يُكتب بشكل رباعي الأشطر، ثلاثة منها تنتهي بمفردة متحدة باللفظ ومختلفة في المعنى (جناس) ويُختم الشطر الرابع بمفردة آخرها الف وباء ساكنة أو الف مقصورة أو ممدودة. وتعتمد العتابة بحر الهزج وليس الوافركما يرد خطأً في بعض الدراسات، كون المفردات الشعبية لا يوجد في تشكيلها ثلاثة متحركات متتالية كتلك التي في تفعيلة الوافر (مفا عَلَتُن). أمّا التسمية –عتابة - فقد اختلف الباحثون والدارسون في اصلها، ولهم في ذلك آراء ومداخلات وتعقيبات مختلفة. ومن الباحثين البارزين في اصل التسمية: الدكتور رضا محسن القريشي، السيد عبد الرزاق الحسني، السيد عبد الكريم العلّاف، الدكتور محمد صدّيق الجليلي، السيد صبحي الفحّام. وهنا، لسنا بصدد ايراد خلاصات توصّلاتهم، لكن يبقى الرأي القائل، ان اصل التسمية قد جاء اشتقاقاً من العتاب، هو الاقرب الى المقبولية.
إنَّ شعر العتابة فيه ملامح بدوية عميقة الاصول، حيث الحزن المتأصل – حياة الصحراء والجزيرة، شعر يُغنّى بمصاحبة الربابة في البدايات الأُولى ومن ثم بمصاحبة آلات موسيقية عديدة. أما المساحة الجغرافية التي ظهرت فيها العتابة وكما جاء في كتاب الدكتور ابراهيم انيس (اللهجات العربية في توزيع العتابة الجغرافي) فهي: محافظة نينوى – قرى الحمدانية والحميدات وزمار والحضر. محافظة كركوك- قرى الحويجة وقره تبه وشيروانه. محافظة ديالى – قرى السعدية والمقدادية. وقد اضاف الباحث (ذنون علي سوادي) الى جغرافية الدكتور، قرى الشرقاط والضلوعية والعلم والدور.
من اشهر شعراء العتابة، الشاعر عبد الله الفاضل، وهو شاعر بدوي ينتسب الى قبيلة الحسنة العنزية، وكان يتحلى بالكثير من الصفات الانسانية: الكرم، الشجاعة، الخلق الرفيع، مما اهّلهُ ان يكون شيخاً لقبيلته. عاش وترعرع في بادية العراق. وانَّ قصة مرضه بالجدري ورحيل عشيرته عنه، تاركةً اياه مع كلبه (شير) معروفة في التداولات الشفاهية ومن ثم في المرويات الوثائقية والمسلسلات التلفزيونية. والشاعر ذاته قد صوّر موقف عَزْله مع كلبه تصويراً بلاغياً:
هلك شالوا علامك حِوَل ياشير
إو خلّولك اعظام الحِيَل ياشير
يلو تبجي ابكل الدمع ياشير
هلك شالوا على حمص إو حما.
إنَّ الشاعر عبد الله الفاضل شاعر موهوب، وما تعرّضّ له في محنته مع المرض قد الهبَ شاعريته كثيراً، وقد لازمت شعره مفردة (هلي) في استهلالات معظم عتابياته، اعتزازاً بالقبيلة وتأسيّاً للفجيعة:
هلي عز النزيل إو عزِ منزال
إو دوم الهم على الدربين منزا ل
اعشوب الناس تنبت واهلي من زل
خَضَر ما يبسو بارح هوا.
في كتابه الموسوم (المختار من شعر عبد الله الفاضل العْنِزي) يكون الباحث (ذنون علي سوادي) قد توافر على معظم شعر الشاعر، واستطاع ان يبوّبه حسب طبيعة الموضاعات:
1 الاعتزاز بالأهل والعشيرة
2 التتيّم بالظعون والرحيل
3 التعلّق بالديار والحنين اليها
4 الشكوى من جور الزمان
إضافة الى شرح الفردات، مع مقدمة عن الشعر البدوي وتعريف بالعتابة وموجز عن حياة الشاعر وقصة تركه وحيداً مع كلبه وكيفية عودته الى عشيرته بعد ان تشافى من مرضه. الّا انَّ عودته ما كانت لتحصل – بعد ان عجزت الوجاهات - لولا ان عرضوا عليه زوجته (ثريّا) بواسطة موكب فرسان خيّاله وهو يُقيم في منطقة قريبة من ديار عشيرته، ولما شاهدها في هودجها وقد ارخت لثامها، شدّه الاشتياق ووافق على العودة بعد ان قال ابياته المشهورة:
ثريا اتلوح والدنيه مسجبه
مطر واضعون خلّاني مسجبه
عجاج الظعن عنبر والمسج به
اخير امن الكَرايا المعطنات.
ورغم مرارة تجربة الشاعر وموقف عشيرته، الّا انه بقى متمسكاً باعتزازه بجذوره العشائرية وبيئته، معتدّا بأهله وببدويته النقيّة وفراسته وقوّة شكيمته:
هلي ابمركب العالي يشبّون
او دوم اسراج بالظلمه يشبون
هلي ما كَادوا العاطف يشبون
إو ظلّن حيل لطراد الضحى.
اشعار عبد الله الفاضل العتابية (البصريّة والتأملية) والتي مازال يتداولها الناس شفاهيّاً ويغنّيها المطربون، اصبحت من التراث الشعبي العراقي بعد ان مضى عليها اكثر من عشرة عقود زمنية.
إنَّ كتاب الباحث (ذنون علي سوادي) يعتبر – حسب متابعتي – مرجعاً توثيقياً غير مسبوق بمثل هذه السِعة، وبذلك يصح القول فيه، بأنه كتاب في الثقافة الشعبية العراقية، ويستحق ما هو اعمق من هذا العرض القادم منهُ وعنه ُ كما تلزمنا الأمانة الادبية بذلك...