وجهه المتعب الملتحف بهمومه مثل خارطة الوطن المثخن بالأوجاع ، وجسده المنهك من وقع خطاه التائهة ، حائرُ بين شواطي الأنهار او الحدائق العامة أو الغرف المتداعية انه الشاعر جبار الغزي الذي جاء الى الدنيا من نافذة الشطرة عام 1945 ، ثم غادر عالمنا المتخم بالإحزان ووطننا العراق المشبع بمظاهر الظلم عام 1985 بعد رحلة انهكت جسده المتداعي ، كان قدره ان يعيش في وطن يكون شعرائه أما متخمين على أعتاب السلاطين ، أو فقراء معدمين تجرف بعضهم قسوة الحياة الى حافات الأنهار وأرصفة الطرقات وافتراش الحدائق العامة او غرباء مشردين في هوامش المنافي يقضون لياليهم في الأضرحة المنسية او الخرائب المهجورة .

التشرد في الوطن هو نصيب الشاعر جبار الغزي ، لماذا يكون التشرد قدر الإنسان ؟ في بلد يطفو على بحر من الثروات ، ليكون الألم والفقر والتشرد هو الطرف الأخر لهذا الثراء الباذخ ، النائم تحت أرضنا ليخرج الى جيوب قلة من الحكام المتسلطين ولحفنة من المتملقين الخدم ، طبقة ثرية صغيرة ، حكام قساة تحالفوا مع الأثرياء الظالمين لنهب الوطن ولجلد الثائرين والشرفاء ، بعضهم وكلاء لمصالح سياسية خارج حدود الوطن تحت أسماء ومدعيات شتى ، تعددت الذرائع والشعارات والنتيجة متشابهة وهي نهب الوطن وحرمان الناس من الخيرات ومن نور الثقافة كي لا يتلمسوا طريق خلاصهم .

أربعون عاماً هي سنوات عمر شاعرنا المتشرد جبار الغزي. لقد غرقت نجمتك ايها الشاعر المتشرد في فضاء المدينة الشاسع ودواماتها الكبيرة ، حكم ديكتاتوري فائق القسوة ، ينزوي الكثيرون في عوالمهم الصغيرة التي يشردوا إليها بعيداً عن مخالب الذئاب الليلية ، وهروباً من قصور النهاية ، التي تنتظر ضحاياها من أصحاب الكلمة ، و هروباً من قسوة الحياة وشظف العيش ، أما شاعرنا الغزي فكان يبحث عن بارٍ صغير معزول ، ينزوي في احد أركانه محاولاً الهروب من واقع الحياة المضني بين مرارات العوز وأحلام الشاعر في حياة جميلة تنساب مثل مياه الجداول ، يتفحص وجه الجالسين بحثاً عن صديق يشاركه في عبور ذلك المساء الأخير .

جبار الغزي كان شاعراً رائعاً وتلك الموهبة لا تعصم من الجوع والعوز والغربة في وطن مثل العراق تموت أقماره غدراً ، فقد قتل فاتك الجاهل شاعراً عظيماً مثل المتنبي ، ومات السياب غريباً وكذلك الجواهري والبياتي ومصطفى جمال الدين وبلند الحيدري وغاب الشاعر ذياب كزار ابو سرحان تحت شجرات الأرز ومازال مظفر النواب وشاكر السماوي وشعراء آخرين في غربتهم .

من وسط هذه المعاناة والاحباطات ومن خيوط حزينة متألمة خارجة من روح متوجعة نسج قصيدته الخالدة غريبة الروح والتي هي احدى القصائد الغنائية التي اشتهرت في العراق وغناها المطرب الرائع حسين نعمة ، وشخصت حالة اغتراب الإنسان في وطنه ، وحلق بها الشاعر جبار الغزي عالياً ولو كتب هذه القصيدة لوحدها فإنها تكفي ان تصنع منه شاعراً يتذكره الناس عشرات السنين ، تحدثت القصيدة عن حالة اغتراب الإنسان في وطنه ، حين يمتزج القهر الطبقي والقهر السياسي والقهر الاجتماعي النابع من وخم الأفكار الراكدة ، التي تقف بوجه تطلعاته الإنسانية ، الشاعر يحاول الهروب من حدود المكان الذي كبله بتلك القيود ، لكنه يتفاجأ بغربة أخرى هي المكان الذي حلم فيه بالخلاص من ثقل القيد ليشعر بألم جديد:

غريبة الروح

تحن مثل العطش للماي تحن ويلفهة المكابر ويطويهة

وانت ولا يجي بالك تمر مرة غرب غرب بيهة

في اواسط السبعينيات دعت هيئة الاذاعة وتحديداً قسم الموسيقى المهتمين في مجال الموسقى والغناء من شعراء وملحنين ومطربين ، الى اخراج الاغنية العراقية من دائرة الحزن التي احاطته وكان شاعرنا جبار الغزي حاضراً ، دعتهم الى تغيير القالب الحزين للاغنية العراقية متصورين ان الحزن هو غلاف تغلفت به الاغنية مثل غلاف قطع السكاكر ، ارادوا ان يغيروا هذا الغلاف من لون السواد الى الوان ذهبية وفضية ، لم يدركوا ان الشاعر هو ابن مجتمعه ويمثل خلاصة تاريخه وعصارة محتواه ، واذا كان الواقع يزخر بالظلم والقمع والفقر والتمايز ، فمن اين يأتي بالوان الفرح كي يغمس بها ريشته ، فالفواجع تتوالى منذ مجيء الحجاج الى الكوفة ليقمع صوت الثورة عند العراقيين ، ليتوج هذا القمع بقتل الثائرين ، وكانت الفواجع تقع على رؤوس العراقيين بدءاً بمقتل امام الفقراء علي بن ابي طالب ، وتناثر اجساد الثائرين من اصحاب الحسين على ارض كربلاء ، وتوزع الناس بين فلاحين وعبيد تحت جور حكم الاقطاع وبرعاية الحاكم الذي ارتدى عباءة الاسلام بعد ان حول هذا الدين الجديد الى شعائر فارغة من أي مضمون انساني ، حتى حُكْمْ العفالقة الذي قتل احلام الناس حين اسس نظاماً استبدادياً فاسداً احتوى على كل انواع الظلم . من اين يأتي الفرح اذا اغلقت كل الابواب بوجه طائر الصباح ، كتب الشاعر الغزي قصيدته المعاتبة والساخرة ، يكولون غني بفرح وذهب بها الى بيت المطرب الرائع قحطان العطار ، واستقبلته والدته استقبال المراة العراقية النجيبة بالحفاوة والترحاب ، ثم حضر الفنان قحطان العطار واعجبته الكلمات ولحنها الملحن المبدع محسن فرحان ، وانطلقت الاغنية بسرعة ، و تغنى بها العراقيون يرددونها كلما ارادو ان يسخروا من سوء اقدارهم وسوء حكامهم وسوء ايامهم ، كانت كلمات الاغنية مثل سجادة مزركشة بكل الوان الحزن ، الحزن عند الشاعر جبار الغزي راسخ في النفس لايبارح حتى في العيد ، وهي ايام الفرح الافتراضية ، والمقتطعة عنوةً من سنين العمر الحزينة والمليئة بالمرارة فقد كتب في قصيدة يكولون غني بفرح للمطرب قحطان العطار واغنية لوغيمت دنياي واغنية سهلة عندك واغنية يا فيض كل هذه الاغاني اصبحن كالنجوم اللوامع في مسيرة الاغاني العراقية الخالدة وكتب للمطرب كمال محمد اغنية يحاجي الناس واغنية لا اول ولا تالي التي لحنهما الملحن الرائع محمد جواد اموري .

في عام 1985 رحل الشاعر جبار الغزي تاركاً احزانه واحلامه الضائعة ، فقد مات شاعرُ وموت الشعراء مصيبةُ حين يقتقد الناس صوتهم ومصابيحهم ، ولكن الشاعر هو الرابح الوحيد في هذا الرحيل ، فهو يستريح كما يستريح المصباح المنطفئ وقد اتعبه لهيب الاحتراق ، فهو صانع النور و حامل النار ، فقد حمل الشاعر جبار الغزي سراجه يتنقل بين الشوارع والبارات الفقيرة المنعزلة ، يبحث عن لحظة تستريح فيها روحه من الضياع والتشرد ، لم تستقر حياته ، وبقي يواجه حياته المبعثرة المضطربة حتى ساعة الرحيل .

عرض مقالات: