حينما قرر الصبي أن يعبر سياج المدرسة الابتدائية أول مرة، لم يكن وحده، كانوا أربعة صبيان، ثمة اثنان بعمره، والرابع يكبرهم بسنة دراسية اسمه "جواد" ولم تكن تلك قفزته الأولى، بل فعلها مرات كثيرة، أما الآخران فسبق لهما أن عبرا السياج لمرتين أو أكثر، لكنها كانت المرة الأولى له. كان "جواد" طوال الطريق من المدرسة، بعد عبورهم السياج والسكة الحديدية، يردد اسما غريبا لم يسمع به الصبي من قبل ولم يحفظه من بعد لصعوبته: ستشاهدون اليوم "كيرك دوغلاس". لم تكن السينما بعيدة عن الشارع المؤدي إلى مقهى "أحمد آغا"، الذي لا يبتعد عن السكة الحديدية، بل هي تلاصق الحافات الأخرى من السوق المجاور للمقهى، تتوسط الشارع ببنائها العالي وسقفها المائل كثيرا. ما فهم سر الميلان الحاد للسقف إلا فيما بعد، قبل أن يصل البيت وهو يدرك أنه تأخر كثيرا، ويعلم أن أباه ينام بعد عودته من العمل، لكنه يحتمل نظرات أمه المؤنبة. قبل أن يصل الباب يحاول أن يقلد الفتى الوسيم الذي هيمن على الشاشة العملاقة للسينما طوال ساعتين وهو يرتدي قبعة وبنطال "كاوبوي" عريضا، وثمة نجمتان حديديتان في مؤخرتي زوجي حذائه، والجسد الرياضي الممشوق يتوسطه حزام عريض يتسع لمسدسين ضخمين بمقبضين أبيضين. لقد استغرب من القبعة التي لا تسقط عن رأسه رغم قفزه من الحصان وسحبه مسدسيه وهو يطلق برشاقة وخفة متنقلا بين الجدران أو يتخفى خلف صخرة يخرج منها رأسه ليصيب أعداءه، الأجساد تتناثر وهو يتقافز مبتسما شامخا وسيما.. يرخي أحيانا الخيط الذي يربط القبعة لتهبط على عينيه وهو يتقي الشمس الحادة حينما يقطع الصحارى والجبال على حصان أبيض. في تلك الليلة، رغم تأنيب أمه وتهديدها بإخبار الأب، نام بسرعة وحلم بمسدسين عملاقين معلقين بحزام عريض وبنجوم كثيرة تتوزع على الحزام والقميص. حلم أنه يمتطي حصاناً أبيض يخترق ضباب المسافة بين السكة الحديدية والمدرسة بسرعة خرافية، ومن ثم يدخل بحصانه باب المدرسة ويشهر المسدسين ويطلقهما باتجاه معلم "الحساب" الذي يسقط بسرعة، لكنه يكتفي بإعفاء معلم "العربي"، لأنه يحب طريقته في قراءة الكلمات، أما باقي المعلمين فيطلب منهم أن يرفعوا أيديهم عالياً والخروج من المدرسة! يدخل الساحة بحصانه وهو يتباهى أمام "جواد" بأنه يستطيع أن يلفظ اسم الممثل "كيرك دوغلاس" بسهولة، وحينما يستيقظ يتواصل إعجابه بالممثل طوال الأيام التالية حيث يشاهده في فيلم آخر، يبدو فيه مختلفا عن شكله السابق، إذ يظهر على هيئة محارب بدرع وسيف وهو يصرخ بمحاربين سبعة، وهكذا تتراكم صور الممثل بوجوه كثيرة لكن يبقى "كيرك دوغلاس" معشوقه يردد اسمه كل يوم. بعد امتداد العمر، والسنوات التي تراكمت كما كانت تتراكم الجثث أمام الفتى "دوغلاس"، نسي أمره وسمع أنه انقطع عن التمثيل وما عادت السينما تعيد أفلامه، لكنه لم ينس أبدا خطأه الكبير حينما قتل معلم "الحساب" في أحلامه، وعبْء تعذيبه مجموعة المعلمين وهو يطردهم من المدرسة، حتى اللحظة التي سمرته الصورة في التلفزيون، حينما ظهرت شابة شبه عارية تقف قرب كرسي متحرك يجلس عليه رجل شاخ تماما وأصبح شكله أقرب إلى الشبح.. لم يتمالك نفسه حينما صرخت الممثلة بأنها أمام "كيرك دوغلاس"، أجل "دوغلاس" ولكن بعمر تعدى المائة عام.. دقق كثيرا في الوجه وحاول لمرات عله يلتقط أية علاقة بين هذا الشبح وبين الفتى الذي أجبره على أن يقلده في سيره والذي رافقه في يقظته وأحلامه، الفتى الذي أجبره على ارتكاب إثم القتل في أحلامه. لم يجد علاقة ولا رابطا سوى الاسم الذي بقيت تردده الفتاة بالبدلة السوداء والتي جذبت بجسدها العاري الانظار التي انصرفت عن الوجه الشاحب لرجل العربة الذي كان بالكاد يبتسم والذي لا يشبه "دوغلاس" إطلاقا، فتداعت صور الصبيان الأربعة الذين عبروا سياج مدرسة العزة الابتدائية للبنين ليعبروا سكة القطار وهم يسلكون الطريق المحاذي لها والمؤدي إلى سينما الحمراء يتقدمهم الفتى "جواد" الذي كان يفتخر بأنه أول من أعلمهم أن الممثل الذي سيشاهدون فيلمه اسمه "كيرك دوغلاس".. حينها اعتذر بصدق لمعلم "الحساب" وباقي المعلمين الذين أجبرهم على رفع أيديهم والخروج من المدرسة.
ضد النسيان... كيرك دوغلاس
- التفاصيل
- محمد علوان جبر
- ادب وفن
- 2474