الرواية التسجيلية نمط من أنماط الكتابة الروائية أُنجزت فيها أعمال مهمة كتبها روائيون عالميون وعرب ومنهم عراقيون ولكننا لا نجد لها حضوراً ولا تنويهاً أو إشارة في الكتابات النقدية العراقية، أهو جهل بهذا النمط الروائي أم تجاهل له، أم اتباع لمعطيات النقد الغربي والوقوف عند مقرراته وتكرارها أو تقليدها والطفو على سطح موجاته للتمظهر بها عمقا أو هشاشة؟

ولأن السرد التسجيلي مركون جانباً غربياً لم يدر بخلد نقدنا تناوله أو الوقوف عنده غفلا عن حاجتنا إليه مع تماس أكثر من المجتمعات الغربية التي قد تكون حاجاتها إليه قد انتفت لتجاوزها المراحل التي تستدعي الاستفادة منه، عكس ما نمر به وما مررنا به في حقب قريبة كان للتسجيلية دور مهم في تلبية حاجاتها إبداعيا.

ثمة ظن خاطئ بأن الرواية التسجيلية لا تحقق المستويات الفنية العالية التي تحققها الأنواع الأخرى. وهذا الظن يستند على ظن أكثر خطأ منه مفاده أنها ـ الرواية التسجيلية ـ لا تستخدم تقانات السرد التخييلية وقوعاً في الخلط بين الرواية التسجيلية والرواية التوثيقية. ومن الانصاف أن نشير هنا إلى أن أكثر من دراسة جامعية كانت قد وضعت في هذا الموضوع، ولكن لم يكتب لها الانتشار والظهور على سطح المشهد النقدي العراقي.

من أوائل ممارسي هذا الضرب من الكتابة الكاتب الأمريكي جون دوس باسوس وهو واحد من الكتاب الأمريكان الكبار الذين تأثروا برواية موبي دك لـ هرمان ملفل: مثل فوكنر. جون شتاينبك، همنغواي وداشيل هامت. وقد أرسى باسوس أسساً رئيسة للكتابة التسجيلية وعلى وجه الخصوص في ثلاثيته الشهيرة (الولايات المتحدة الامريكية). وكتب اندريه مالرو روايته التسجيلية (الأمل) عن الحرب الاسبانية. أما ماركيز فقد دشن الكتابة التسجيلية بروايته (خبر اختطاف) التي تناول فيها عملية اختطاف حقيقية تعرضت لها مجموعة من الاعلاميين ومسؤولين امنيين من قبل إحدى المجاميع الإرهابية التابعة لاوسكوبار.

إلا إن ادوين موير يرجع الرواية التسجيلية إلى أبعد من ذلك إلى تولستوي ومثاله عليها ملحمته الشهيرة (الحرب والسلام).

وعربياً أنجز الكاتب صنع الله إبراهيم ثلاث روايات تسجيلية هي (1970) وتسجل تفاصيل السنة التي رحل فيها الرئيس جمال عبد الناصر ورواية (بيروت بيروت) عن الحرب الأهلية اللبنانية ورواية (أمريكانلي) التي كانت أقرب إلى التوثيق منها إلى التسجيل شأن محاولة صلاح عيسى (مجموعة شهادات ووثائق تخدم تاريخ زماننا) المغرقة في التوثيق ولعل اسمها يؤكد طبيعتها كذلك رواية إسماعيل فهد إسماعيل (الشياح) وهي الأخرى عن الحرب الأهلية اللبنانية. مسرحها منطقة الشياح التي كانت مسرحا للمعارك الفعلية الطاحنة. وفي روايته (تلك الليلة الطويلة) سجل الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف تفاصيل حادث سقوط طائرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الصحراء الليبية وما واجهه هو ورفاقه من صعوبات حتى نجاتهم فجر اليوم التالي.

وتتنوع الاساليب وتتطور في الرواية التسجيلية فقد تنفتح على أنواع أخرى من السرد كما هو الحال مع رواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر التي اتخذت من تسجيل تجربة الكفاح المسلح في أهوار جنوب العراق منطلقا لها بتفاصيل الوقائع اليومية والشخصيات الحقيقية كالنواب وخالد أحمد زكي.

وتعد رواية (سباق المسافات الطويلة) لعبد الرحمن منيف رواية تسجيلية ذات طعم خاص فهي الرواية العربية الوحيدة التي تسجل أحداث واقع أجنبي إذ جاست في تجربة مصدق بتأميمه النفط الايراني وهروب الشاه الى العراق وصراع كارتلات النفط على ثروات البلاد عن طريق مؤامرات مخابرات الدول الامبريالية التي برع الكاتب في ملاحقتها ومن ثم اسقاط مصدق بانقلاب دبرته المخابرات الامريكية والبريطانية عام 1953أودى بمصدق إلى السجن ثم الاقامة الجبرية .

وعراقيا كتب الاستاذ أحمد الباقري روايته التسجيلية (ممر إلى الضفة الاخرى) موثقا حادثة هروب السجناء الشيوعيين من سجن الحلة عبر النفق الذي حفروه في أحد جدران السجن منتصف ستينيات القرن الماضي واللجوء الى الاهوار. وهو ما اطنبت في تسجيله رواية الكاتب السوري حيدر حيدر المشار إليها آنفا.

وربما من المفاجئ القول إن رواية (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان سلكت طريقاً تسجيلياً بتناولها حدث فيضان بغداد عام 1954 والسنين التي سبقته والتي تلته قبيل ثورة 1958وحتى شخصيات الرواية هم شخصيات حقيقية معروفة لم تستبدل سوى الاسماء.

ورواية (الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي هي الأخرى نحت منحى تسجيلياً انطلاقا من تسجيل واقعة حصار أحد أحياء بغداد من قبل انقلابيي شباط الدموي عام 1963ولكن استخدام التكرلي تقانات تيار الوعي وهو ما درج عليه منذ أعماله الاولى كان قد طمس حادثة حصار الحي البغدادي الشهير. وساح في تفاصيل الشخصيات المتباينة في مستويات وعيها وهو مأخذ يسجل غالبا على استخدام التكرلي لتيار الوعي فليس من المنطق التعامل مع وعي ساذج مثل وعي الجدة الشعبية او حتى ذوي الوعي البسيط من شخصيات الرواية الاخرى بهذه التقانة التى تتطلب أن تكون الشخصية ذات وعي مركب تنجم عنه دواخل عميقة وغير مسطحة ومركبة .. وربما بدواخل معقدة وذهنيات مختلة كبنجي بطل (الصخب والعنف) لفوكنر مع تأكيدنا أن السرد التسجيلي لا تنتفي منه تقانات السرد الحداثية ومنها تيار الوعي وهذا ما فعله باسوس ومالرو شريطة المواءمة بين مستوى وعي الشخصية والنوعية المستخدمة من هذه التقانات، فمن البديهي أن وعي امرأة ريفية عراقية لا يشبه وعي السيدة دالاوي أو بنلوبي أو ديديالوس.

وفي آتون الحملة القمعية التي شنها النظام الدكتاتوري البائد أواخر السبعينيات ضد الشيوعيين وأنصارهم والتقدميين وقد كنت في خضم معاناتها حيث كتبت روايتي (تحت سماء داكنة ) وسجلت فيها التفاصيل اليومية لمجريات الحملة التعسفية والممارسات الوحشية التي قامت بها أجهزة النظام البوليسية والحزبية ضد الشيوعيين وأنصارهم والقوى الوطنية الأخرى غير المصطفة مع حزب السلطة. وعن التجربة ذاتها والمعاناة ذاتها كتب أخي القاص الراحل نعمان مجيد روايته (العناكب) وأحسبهما الروايتين الوحيدتين* اللتين كتبتا عن تلك الحقبة المأساوية وما كان لهاتين الروايتين أن تنشرا زمن كتابتهما فظلتا تختبئان في أمكنة سرية لذا أطلقت عليهما في أكثر من مناسبة (الأدب السري) وهو الأدب المناهض للسلطة والذي يكتب سراً بعيداً عن عيونها وهو موجود في آداب الامم الاخرى. ومثاله الابرز عالميا أدب المقاومة الفرنسية الذي كُتب تحت نير الاحتلال النازي ومن امثلتها الشائعة لدينا رواية (صمت البحر) لفيركور.

وبعد التطورات الجوهرية التي حصلت في الرواية الحداثية تحولت التسجيلية من اسلوب يطبع كامل النمط الى تقانة تشغل حيزا في البناء الروائي يتفاعل ويتنامى مع بقية العناصر.

الرواية التسجيلية لا تتمترس عند تسجيل الظواهر والاحداث والتواريخ معزولة بل مرتبطة بالحياة الداخلية والروحية للانسان فيندمج التسجيل بالفعل الروائي ضمن بناء الرواية المتشكل من كل العناصر فتتحقق الوظيفتان التسجيلية والروائية. وقد لا يتحصل للتوثيقية مثل هذا فتغدو الوثيقة ككولاج في المتن الروائي محتفظة بحدودها الفاصلة وليس من السهل اندماجها فيه.

وفي ندوة دولية عقدت مؤخراً في اسطنبول دُرست رواية (تحت سماء داكنة) مثالاً على الروايات المجسدة لأسباب الهجرة وبواعثها. مما يدفع باتجاه التأكيد على أن الرواية بلغت أحد أغراضها في تحقيق الإدانة لتلك الفترة بتسجيل وقائعها وابراز معطياتها.

ويتيح لنا ذلك أن نستخلص أن الرواية التسجيلية قد تكون متوازية مع سرديات التاريخ التقليدية والرسمية منها خاصة التي تسكت عما لا تريده أو تزيفه ولا تعكس حيوات الناس وتفاصيلها اليومية ولا تزودنا بغير أسماء الأعلام والمواقع والأرقام الصم وتذهب تجارب الناس وما ذاقوه فيها من معاناة جراء النكبات الخاصة والعامة وما نزفوا من دماء ومشاعر إلى غياهب النسيان. وهذا ما تتكفل بإنجازه الرواية التاريخية ورواية التاريخ والرواية التسجيلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*في ظل السلطة السابقة ظهرت روايات مناوئة منها: "الاسطرلاب" لـ علي لفتة سعيد و"المنعطف" لـ حنون مجيد. وروايات وقصص لـ شاكر خصباك وغيرها من الاعمال..

(المحرر الثقافي).

عرض مقالات: