بعيدا عن التفسيرات الحالمة لعمليتي الكتابة والقراءة، وفيما إذا كانتا وسيلة لمقارعة الجنون، أو أداة من أدوات إصلاح الكون المائل وغسل الروح من أدران العصر وما إلى ذلك من التوصيفات التي يحلو للكثيرين سوقها في معرض ردّهم على سؤال إشكالي مثل “لماذا تكتب؟ ”.. أو “لماذا تقرأ؟”، أقول بعيدا عن تلك الطروحات أجدني مؤمنا، لسبب لا أعرفه في الحقيقة، بمقولة قديمة يعزوها أكثر المؤرخين رصانة إلى أفلاطون الفيلسوف، مفادها أن القراءة المفرطة قد تؤدي إلى إهمال الذاكرة والاعتماد على الرموز.
شخصيا لا أستطيع الجزم في الحقيقة، فربما فعلا يجد البعض في الكتابة أو القراءة ممارسة ملّحة قد تحول دون جنونه، على الرغم من أنّني ما زلت أشعر بقدر من المبالغة في مثل هذا القول، لكن الأمر المؤكد عندي هو أن فعل القراءة يختلف تماما بين الكاتب والقارئ، فأنا شخصيا أحرص على الدخول في فترة صمت قرائي إن جاز التعبير، قبل الشروع في كتابة عمل ما، ذلك لأن القراءة المتزامنة مع فعل الكتابة والتأليف تشوّش أفكاري وتصيبني بالتشتت، وربما الوقوع في أسر الكاتب الآخر، كما أن عملية الإفراط في القراءة والتفكّر وتمحيص التجارب والانكباب على تحليلها، قد تولّد لدى الكاتب إحساسا بالعجز وترفع من مستوى معاييره الذاتية بشأن الاقتناع بعمله، وبالتالي يقع فريسة العجز وعدم القناعة بالكتابة وإدمان القراءة.
طبعا أنا لا أقصد القلق المشروع الذي يعتري أيّ كاتب هنا، فأنا شخصيا عندما أقتنع بنصّ ما وأقرر نشره، أكون في الوقت نفسه قد أتلفت عشرة نصوص موازية، قد تفوقه جودة ومتانة، لكن ما قصدته هو القدرة على التحكم في عملية القراءة واستلهامها وعدم الاستسلام للرموز والتأليه. يقول الفيلسوف جون لوك في هذا الصدد “إن القراءة تزود عقولنا بمواد المعرفة فقط، بينما التفكير هو الذي يجعلنا نتحكم بما نقرأ”.
وبالعودة إلى مقولة أفلاطون، فإن الإفراط في القراءة قد يؤدي إلى إهمال الذاكرة، أو التجارب السابقة وما تعلمناه في مراحل حياتية معينة، وهو ما يشكّل معضلة حقيقية بالنسبة للكاتب، بينما يتحوّل القارئ المفرط في القراءة إلى مدمن عاجز حتّى عن التأمل والتمتّع، يكثر من الاستعارات ويؤله الرموز التي تصادفه ويفتتن بالوقائع، وفي المحصلة تبدأ تلك التأثيرات بتكوين حاجز وهمي لا يشعر به يعمل ببطء على تشويه ذائقته ويبدّد قدرته على الاستلهام.
نعم بالتأكيد القراءة مهمة للغاية، لكن الإفراط فيها وإسباغ الأوصاف المبالغ فيها عليها وتقديسها وجعلها غاية عليا في حد ذاتها قد يشلّنا عن عملية التفكّر واستلهام العبر والتجارب العظيمة التي يبدع الكتّاب في تجسيدها، ذلك أن مخيلة القارئ العادي قد تعجز عن التقاط الكثير من التفصيلات أو فرزها من اليومي العابر كما يفعل الكاتب.
وبقدر تعلّق الأمر بالكتابة فغالبا ما نُسأل نحن الكتّاب لماذا نكتب؟ ويحلو للبعض تأليه هذه العملية الإنسانية الشفيفة ويعدّها وسيلة لدرء الجنون أو ما شابه، وفي الحقيقة فإن عملية الكتابة، شأنها في ذلك شأن أيّ ممارسة إنسانية أخرى، لا تعدو عن كونها وسيلة للتعبير عن الأفكار وما يعتمل في النفس من مشاعر وخيالات وصور، وهي خاضعة لاشتراطات كثيرة، أهمها الاحتراف وامتلاك الأدوات، ومازلت أكتب كي ألهم القرّاء وأقدّم لهم المتعة بعد أن ألتقط لهم صورا طالما كانت أمامهم لكنّهم لم ينتبهوا إليها، وأسعى من وراء ذلك الى الاحتراف والتمرن على الكتابة اليومية بمقدار معيّن، وما لم أشعر أن نصّي يفعل هذا لا أقدم على نشره البتة.

عرض مقالات: