يجيد القاص حنون مجيد الغوص في بحر المعاني، القصة القصيرة جدا حيث لا تتطلب من القاص اي تمهيد للدخول مباشرة للشخصية والموضوع، الايقاع السريع لا يعني ان القصة القصيرة جدا كتبت بسرعة يجعلها تكون غير ناضجة والاختزال في اللغة لا يعني ان القاص لا يملك ثروة لغوية ، صفات وتسميات كثيرة حددت معالم القصة القصيرة جدا، فالبعض يرى فيها (القصة البرقية) أو (القصة الصريحة) او هي (قصص السطور الثلاثة) و قد تكون (الشظية، اللوحة، المشهد، الومضة ) ويمكن ان نسميها (المقطع والخاطرة والشفرة) على ان لا يخلو هذا النوع من القصة من المفارقة الساخرة سواء اكانت مفرحة او حزينة! وقدم (أرنست همنجواي) قصة قصيرة جدا تكونت من خمس كلمات فقط ، قال عنها انها أفضل ما كتبه "للبيع، حذاء لطفل، لم يلبس قط" لاحظ كم تثير هذه القصة من الاسئلة وتحتاج الى وقت لأستيعاب المغزى، قد يذهب المتلقي الى (موت الطفل) وقد يكتشف ان الموت بسبب (الفقر) ، يقول "حنون مجيد" في مقابلة صحفية حول مسوغات كتابته القصة القصيرة جدا قائلا "أن وسائل التعبير القديمة التي ذهبت مع الزمن، ضاقت بما يحصل أمامها من تغيرات صارت تتطلب طرائق جديدة وحديثة، لتؤدي وظيفتها على وجه أفضل".

وفي قصة (الصقيع) من مجموعة "بصيرة البلبل" دار غراب- القاهرة نجد القاص لم يلجأ الى الرومانسية في العنوان مثلا (ليلة باردة) ليوحي بأنها لا بد ان تكون بفعل الحب ليلة دافئة!

وفي اعادة قراءة القصة نرى دقة اختيار الكلمات ، فهو يبدا بجملة تحدد المكان الاكثر اثارة (غرفة النوم) ويأتي الفعل الاشد فضولا لأي رجل وامراة لكنه حدد مكان كل منهما وحرص ان يكونا بعيدين (كل بزاوية) ، الان يأتي دور( الموقف ) الذي يعبر عن اللامبالاة او (تجنب) كلا منهما النظر للاخر يمكن لعدم اكتشاف العيوب التي تصيب الجسد بسبب العمر (لا ينظر أي منهما ) لو قال للاخر سوف لا يكون قويا بالتعبير والاشارة بل قال (إلى أي جزء من عري صاحبه) أي لم يبقي في كل جسديهما ما يستحق ان ينظر اليه وانعكاس هذا التجاهل المتبادل (إنما يبتسم كل للاخر ) ولو اكتفى بهذه العبارة لكانت تعني شيئا يختلف ان يضيف اليها طبيعة الابتسامة (ابتسامة باردة) والابتسامة الباردة هي الابتسامة العابرة الميته التي لا تعني الرضا والأشتياق، وتنتهي القصة ايضا بنوع من الافتراق اليومي (ينصرفان، هي الى مطبخها تعد الفطور، وهو الى مكتبه يقرأ في جريدته)  ساد المشهد الذي يمثل بالزمن لحظة ما (دقائق) ونوع المكان(غرفة النوم) والفعل (العري الكامل لتغيير الملابس فقط).

ونوع التواصل (ابتسامة صفراء) وانتهاء المشهد (الافتراق) ساده الصمت ، فلا وجود للتحية الصباحية ولا قبلة عابرة، انه خريف العمر، الذي تتجمد فيه المشاعر لتكون بمثابة (الصقيع).

توزعت قصص المجموعة على نسيج الواقع السياسي والاجتماعي والهموم الذاتية وكذلك الوفاء لأصدقاء القاص وذكرياتهم، ففي اكثر من قصة تكون الشخصيات من الادباء الذين يرتبطون بعلاقات اجتماعية وادبية بالقاص ، امثال (عبد الستار إبراهيم في قصة صوت الآخر).

القاص يضع مفارقة غرائبية معتمدا على تشابه مصطلح مجلة (صوت الآخر) متمثلة بالحياة والعطاء والابداع في (مجلته) واسمها، والصوت الثاني متمثل (بالمرض الخبيث ) وعلى الرغم من المقاومة تنتهي حياة عبد وبالصورة التي تجسدها هذه القصة المهداة الى روح هذا الصديق وظل الوفاء يقاومه، مثلما يقاوم جندي عدوا له، فلما نفد عتاده وما يزال العدو شاهرا سلاحه، رفع ذراعيه قائلا، كفى.. كفى.. ها أنا قادم إليك" وسنجد الموت يتكرر في اكثر من قصة (عبد الله لذكراه البعيدة).

وكذلك الهجرة في قصة  (سركون) "ينفض سركون بولص تراب منفاه البعيد وينثر أوراقه في الريح ويغني "انا من باع حياته ليشتري عينين وفيتين" أهتف ما أبهى صوتك سركون! يرد وما لي لا أسمع صوتك حنون، أقول أعرني نايك المسحور قديسي".

تلقي بعض القصص الضوء على الهموم الذاتية للقاص، وتجسدها المشاهد اليومية التي فيها الطرافة من خلال علاقة الجد بالاحفاد مثل قصة (الجد في خلوته) وقصة (إنابه) التي تتناول حرمان الجد بسبب مرض السكري من تناول حبات العنب فينوب عنه الحفيد وتتنوع اساليب السرد عند حنون مجيد فترى قصصه تقترب من الشعر مثل قصة (يقظة اللحظة النائمة) " تناثرت أوراق الشاعر على هبة ريح، وعبثا حاول لمها وهي تحلق للأعلى، حتى هام أخيرا معها. كانت هنالك طيور بيض تطرز صفحة السماء، يتابعها طفل بفرح عاتٍ وصفير حاد ويهش عليها بعصاه".

المجموعة تحمل هم الوطن والمواطن الذي ابتلى برجال قتلة ومفسدين، مما يجعل القاص يعبر عن الغضب بقصة (إنه يعود هذا اليوم) "البطل الذي هجم "بمكواره " على الدبابة البريطانية إبان ثورة العشرين، يعود هذه الأيام إلى الحياة. يقول : سأعيدها ولكن هذه المرة على المنطقة الخضراء، فهنا اشفي نفسي!

عرض مقالات: