عندما تشتدّ المحن وتتوالى على مجتمع ما، كما هو الأمر في العراق وسوريا وغيرها من البلدان العربية، تصبح للناس ذاكرة مُحتقنة تتطلب التفريغ بين الحين والآخر.
نعم للناس خزين من الذكريات والصور والأحداث الغائرة في وجدانهم يجب أن تروى بالنسبة إلى من استطاع إليها سبيلا، وليس بالضرورة أن تروى بطريقة حسنة، كما ليس للنقّاد أو كهنة الإبداع الحقّ بأن يمنعوا هؤلاء الناس من تدوين ذكرياتهم وحكاياتهم وتجاربهم التي خاضوها، خصوصا تلك الموجعة منها على وجه التحديد. لكن من جهة أخرى لا بدّ من طرح السؤال الكبير، ما هو الأدب؟ أو ما هي الرواية تحديداً؟ قد تبدو عملية كتابة رواية ما سهلة نسبياً من الوهلة الأولى، أقصد لجهة رواية أحداث ما وتوثيقها كما حدثت في الواقع.
لكن يبقى التناول الروائي وابتكار أساليب السرد وتوظيف اللغة الرشيقة وامتزاج الواقع بالخيال وبثّ الأفكار والرؤى والأحلام وتجسيد التطلعات والإحباطات قضية معقدة ومركبة للغاية، وبما أن النظرية التي تقول إن الرواية الرائجة ليست بالضرورة أدباً جيداً هي نظرية صحيحة إلى حدٍ ما، فإن عامل الانتشار النسبي أو السريع لم يعد شرطاً للجودة والإتقان، طالما اعتمد أساليب الانتشار الافتراضي - إن جاز التعبير- لا سيما في خضم انتشار الثقافات الاستهلاكية السريعة والسهلة التي تروّجها محطات البث التلفزيوني وتوفر وسائل النشر والترويج الإلكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن اتّباع أساليب الانتشار تلك ليست محرمة أو مشينة على الإطلاق، أما الأدب فيبقى قضية أخرى أعقد بكثير في الواقع.
لقد ساعدت عوامل عدة، لا سيما في عالمنا العربي، على انتشار الاستسهال وتشجيع الكثيرين لاقتحام عالم الرواية على سبيل المثال، منطلقين من السهولة الخادعة للأدب إجمالاً والرواية على وجه الخصوص، طالما لا توجد مؤشرات حقيقية للانتشار والتحقّق من حجم المبيعات، وعلى سبيل المثال يلجأ بعض الناشرين، في العراق على وجه التحديد، إلى طباعة كميات محدودة جداً من كتاب ما، وما إن تنفد هذه الكميات حتى يسارعوا إلى طباعة كميّات أخرى محدودة منه تحت يافطة الطبعة الثانية أو الثالثة وهكذا، حتّى يتجاوز عدد الطبعات السبع أو الثماني في كمية نسخ لا تتجاوز الخمسمائة.
إن غياب معايير الجودة ومؤسسات التحقق من الانتشار في العالم العربي قد أسهم إلى حدّ ما في ترسيخ مثل تلك الظاهرة المؤذية في الحقيقة، ناهيك عن تصدي بعض المثقفين وانسياقهم الى الترويج لبعض الأعمال الضعيفة أو العادية بدوافع عاطفية بحتة لا علاقة لها بمعايير الجودة، متخلين بذلك عن شرط النزاهة الجمالية الذي تحدّث عنه الباحث العراقي عباس داخل حسن في كتاباته التي تتصدى لمثل تلك الظواهر.
وبالنظر لانتشار الفوضى الأدبية التي تضرب أطنابها في العراق اليوم نتيجة لانتشار الفوضى السياسية وغياب المؤسسات وتراجع التقاليد وغياب الرقيب الفني على النتاج الأدبي هناك، فإن المسؤولية الكبيرة اليوم أصبحت ملقاة على عاتق المثقفين والناشرين المثقفين أنفسهم لتشكيل حائط صدّ من نوع ما والحيلولة دون اختلاط المعايير، وفي المحصّلة لا يصح إلّا الصحيح ولا بدّ للتجارب المُجيدة أن ترسخ في الوجدان وسرعان ما يتبدد الزبد ويذهب جفاءً كما يقال، لكن حتى يحدث ذلك على البعض من المثقفين التحلي بالمسؤولية والتخلص من عقدة النقص العاطفي المشين الذي بات يحرّك طروحاتهم من دون وعي لأهمية مفهوم النزاهة الجمالية، وإلّا ما الذي يميزهم عن السياسيين الفاسدين الذين يشيعون الخراب من حولنا ويسممون حياتنا يومياً حتّى ضاقت فسحة العيش الكريم بوجودهم.