في فيلم " هيروشيما حبيبتي " يدور حوار بين البطل " الياباني " والبطلة الممثلة الفرنسية التي تزور " هيروشيما " بعد عشرة اعوام من القاء امريكا قنبلتها الذرية عليها، حينما قالت له : إنها زارت كل شوارع وأماكن هيروشيما، يقول لها " أنت لم تري شيئا من هيروشيما " لكنها تصر انها لم تترك مكانا في المدينة لم تذهب اليه، يعيد عليها ذات الجملة " أنتِ لم تري شيئا من هيروشما " فهيروشيما لم يرها إلا من كان هناك ومن كان هناك انصهر تماما، ولهذا نحن جميعا لم نرَ شيئا من تلك المدينة. ينسحب هذا الأمر على الروائي حميد الربيعي، حينما اقول له انني اشاطره المه وحزنه ومحاصرة المرض له، كنت اقرأ في عينيه ذات الحوار حول هيروشيما .
هذا الرجل يحب بغداد، كما يحب الرضيع أمه .. لكنه ـ أعني هذا الرجل ذاته ـ يكره بغداد ايضا، كما يكره المريض مرضه ، أعلن ذات يوم الحرب على بغداد ، فكتب فيها أجمل القصص، وفي حرب اخرى ـ على بغداد ايضا ـ اتهمها بأنتهاكها رئة واحدة وأتهم الغربة والضياع فيها بانتهاك الرئة الاخرى قال :" أتهمك يا بغداد بدس الورم داخل كيس الحياة ".. لكن بغداد ارتدت يوما افخر ثيابها وجلست قبالته حاورته. " لست أنا ، خرجت من حضني سليما ، يوم ارسلتك السلطة الى المنافي كنت برئتين سليمتين، ولكنك بعد ثلاثين أو أكثر عدت لي هكذا ، يومها اقتنع الرجل، لكن بغداد طلبت منه أن يكتبها قصة .. فكتب لها " بيت جني " عبر ست عشرة قصة وكلها تستحق أن تقرأ لاكثر من مرة، ليس لآنها تمتلك مقومات القص السليم فحسب، بل لأنها قصص عراقية بأمتياز حفرت طريقها باتجاه الهدف بلا لف ولا دوران، إذ من النادر ان تنقلك قصة ـ كما فعلت بيت جني ـ الى مكان في مدينة ما ... وان تعيش تفاصيل بدقة لاتقترب من الفوتوغراف ولاتبتعد عن السحر ... انذاك تجد نفسك منساقا الى الجمال او " الغاية " .. بغداد شخوصها .. جمالها .. قبحها .. ضجيج الحياة في غرفها المظلمة والمنزوية .. كل هذا فعلته وقدمته مجموعة " بيت جني " بدءا من دلالة العنوان وصولا الى محطاتها الست عشرة .. " بيت جني " قصص تمتلك كل مقومات نجاحها لانها امتلكت الشرط الفني الذي يجب ان يتوفر في العمل السردي الناجح .. " التشويق " وقدرة هائلة في الوصف على هيئة صور تتدفق تباعا والقارىء ينساق معها، منحازا الى بعضها وكارها بعضها الاخر ، لكنه لايستطيع فكاكا منها ... يرى انه يجب ان يجهز على هذه الوجبة السردية اللذيذة ....
لكن بغداد بقيت تغمز له " رغم مرضه " رغم " مشارط الجراحين في رئتيه .. رئة بعد أخرى.. كانت تستغل حبه لها .. وحالما تغمز له .. يكسر صمته وعزلته فيذهب الى دجلة يتسمر امام النهر الخالد أو يجوب شوارع بغداد ومقاهيها وحاناتها ومواخيرها ومقابرها ومقامات سدنتها الكبار .. مقامات الصالحين .. فقدم الى بغداد ذاتها ـ المدينة التي يحب ـ على طبق من وجع "أحمر حانة " الرواية البغدادية بامتياز، رواية المكان التي سرعان ما تلقفتها بغداد بين طياتها واعلنت انها ستبقى نجيبة الى هذا الولد. ومنذ ذلك الحين وبغداد تبعث له بلسمها الشافي رائحة خاصة تختص بها دون غيرها من المدن .. ودائما تأتيه في احلامه على هيئة امرأة جميلة ترتدي الأحمر الشفاف وهي تقف قرب وسادته ربما تذرف دمعه او ربما تضحك وهي تواصل تمسيد جبهته باصابعها الجميلة.