الرجع القريب لحكايات الخوف العائدة من هدير الموج الغريني القديم


"
لأن الخوف صار امتيازاً سلبياً في دولة الرعب وانعدام السلم الأهلي في العراق راهناً؛ أصبح من المهم دراسته بوصفه ظاهرة في قصصنا. وهذه الدراسة المعمقة للخوف، تجعلنا ننشرها بجزئين استثناء من الايجاز الذي نعتمده في هذه الصفحة".
المحرر الثقافي

مدخل

1- تستخدم هذه الدراسة متوالية بول ريكور"1"، التي تذهب الى أن التاريخ يحافظ على وجوده وكينونته من خلال سرده باستمرار، أي إننا إزاء تحولات وقائع سردية في صورة ذات تاريخية ثابتة لذلك، والإقتباس من ريكور"نحن نتابع مصير زمن مصّور يتحول الى زمن يعاد تصويره" بين منحيين عالمي وإنساني عام وآخر محلي خاص.
على هذا الأساس ما إستعادات وتشكّل تصوير البنى السردية الرافدينية في مرحلة ما بعد التنقيب وكيف تؤلف هذه البنى هويتنا السردية بين التعبير عن الذات الانسانية والاستشراقية العامة وما ينشأ عنها على المستوى المحلي والتاريخي الخاص؟.
2-
هناك كائنيتان سرديتان ناشئتان عن علم الآثار الاستشراقي ومرتبطتان مع مظاهر البحث العلمي، تسفران باستمرار عن نتائج سردية متقدمة، الأولى الكائنية السردية الآثارية التي تنجم عن التنقيب والحفر والترميم والصيانة وقراءة الألواح والتحقيب الاركولوجي وتحديد مواقع البحث على الارض وغير ذلك.
هذه الكائنية تمثل وجهة النظر الغربية الصرفة وتعيد سرد وتصوير الوقائع تبعاً لمستحثات تاريخية تتصل بتاريخ الغرب نفسه.
الكائنية الثانية هي الكائنية الآثارية والسردية الشرقية التي نبحث في سياقها عن صورة الذات المحلية لكي نروي من خلالها ومن ثم نحدد مؤشرات هويتنا السردية ؟.
وهذه الكائنية في العموم هي صورة غربية وإنسانية تمضي ببطء في شكل تكويني نحو المحلية، ننشئ من خلالها رويداً مصنع تصوراتنا الشرقية جوار المصنع الغربي بامتياز حقلنا الأرضي وما تخبئه رمالنا من أثر قديم لن نتبصره في خلايا ذاتنا ولم نعثر عليه في شبكة هويتنا السردية ؟.
3-
في غمار الكائنيتين، ينشأ السرد القصصي الرافديني سواء في نموذجه الاستشراقي او المحلي حتى جاءت المحاولة المحلية في بداية الستينيات من القرن الماضي لتسفر عن إعادة قراءات ومحاكاة معاصرة لتلك السرديات الكبرى في ما يشبه التطبيع والقولبة والتكييف في سياق نص حديث ويمكن عدها سبيكة سردية جديدة على وحدة فنية مختلفة لها شبكة علاقات وزمنية سردية جديدة.
4-
تخلص هذه الدراسة الى ان السرد الواقعي الرافديني بما يلقيه علم الاثار من ضوء، يحتاج الى تفسير تبعا لمتوالية ريكور في الذات الساردة وتكشف عن أن التاريخ الذي هو سلسلة وقائع لم يحافظ على وجوده وكينونته من خلال السرد إلا بالقدر المأزوم والمغترب المعبر به لذا فالطيف القصصي الجديد وبناء على إرتقاء المخيلة الآثارية تنقيباً في التراب وبحثاً في الورق، يحاول فهم الفجوة بين التاريخ والذات الساردة، بين انكشاف تلال الرمل ورمزية الفعالية البشرية بالقرب منها.
5-
تبعا لذلك فان الطيف القصصي، يسير باتجاهين، أولاً : إعادة تشكيل الاخفاق والاغتراب فنياً ومحاولة ربط سلسلة الوقائع في تجربة إندماج مجتمعنا الرافديني بالعالم الحديث، وثانياً البحث والتحليل السوسيولوجي والسايكولوجي للفعالية البشرية بالقرب من نموذجها الدفين في الرمال.
تصف أجاثا كريستي كتاب روايتها أو مذكراتها"2" عن رحلاتها الآثارية في سورية والعراق بأنه: جواب !! وحتماً سيرد في ذهن القارئ أن هذا “الجواب” لابد أن يكون مسبوقا بسؤال ما لتجيب عليه بالفعل : نعم جواب على سؤال يطرحه علم الآثار عن الماضي وهو" تعال قل لي كيف تعيش؟" ونتابع مع كريستي كيفية العيش لتقول باستخدام المعاول والمجارف والسلال إذ تزاح أطنان الرمل عن أدوات صغيرة وكبيرة منزلية وعامة مثل صوامع القمح وأبر مصنوعة من العظام وقدور الطهو الخزفية وأقراط ذهبية ومدافن ومعابد وقصور ملكية.
وهكذا فان الكاتبة الانجليزية في هذا المورد السردي، تبحث عن تشكيل شبكة علاقات روائية جديدة حقاً وإقامة حيز مكاني فني مستحدث ببراعة بين اللقى المستخرجة من الرمل وطبيعة تأملاتها الجديدة لها في مجالها الإستعمالي فالأقراط الذهبية أو نسخ مصنوعة منها تقدمها هدية لابنتها وبعض الجرار القديمة تملأ بمساحيق تجميل حديثة وأبر العظام لخياطة الملابس وغير ذلك.
إذن فالكاتبة هنا تروي في ضوء نتائج التنقيب وتنفرد بروايتها الفنية لصالح الرواية أكثر أي انها تتحدث عن التجربة الروائية وتشكيل عناصرها السردية وحيزها المكاني الحاضر وليس الماضي كما هو مطروح في علم الآثار.
أن الكائن السردي والروائي في مخيلة الكاتبة يتحرك في مجال الكائن الآثاري الذي يتحرك بدوافع مختلفة في اتجاه آخر، ولكن هل لنا أن نناقش هذا "الجواب" كما وصفت به كريستي مذكراتها في ما يتعلق بمنظور علم الآثار الإستشراقي حين يستخدم تلك الأدوات – المعاول، المجارف، السلال -تنقيباً وحفراً عميقاً لا لكي يكتشف طرائق عيش بعيدة جداً عن أمكنته وبيئته أو يبتكر مشهدا روائياً متخيلاً على نحو ما وهو غير معني بذلك تماماً حتى لو كان تحصيلاً متراكماً وجانبياً لنتاجه العام هنا أو هناك.
لقد كانت هذه الأدوات التي إستخدمها مئات العمال المحليين الأُجراء في الحفر لمئات الأقدام في طبقات أرض بابل وأور دون ان يدركوا شيئاً عن أعمالهم سوى إنتظار أجورهم في المساء، كانوا ينقلون بسلال الخوص ترابها الى مسافات قريبة منها على عربات مثبتة على سكك حديدية لم تكن في جوهرها سوى فكرة دينية مقدسة إرتبطت كلياً بالعهد القديم وما كان الآثاريون القادمون من بعيد سوى شحنات طاقة معبأة تهفو الى أن تكتشف بعض الاشارات عن نبي العهد القديم ابراهيم كما يقول ماكس مالوان ولم تفلح في أن تجد أسمه منقوشاً في سجل الألواح السومرية ولكنها أفلحت كما يتابع مالوان في تكوين خلفية الوطن الأصلي لإبراهيم قبل هجرته من سومر الى فلسطين."3"
وتعد أكبر وأعظم انجازات علم الآثار الاستشراقي ماهي في بدئها إلا استجابات لهذه الفكرة الأساسية التي تؤلف كائنيته الآثارية ثم اتجهت بمرور الوقت الى أبعاد معرفية أخرى من مكان لآخر بيّد إنها ظلت حتى هذه اللحظة بعمومها تشكل وجهة النظر الغربية في "بنى الشرق التاريخية" فالآثاري القادم من الغرب له مستحثاته التي تمت بصلة محلية لما يدور فيه الاهتمام والتركيز على قضايا في عصره وبيئته الثقافية والسياسية التي تنتظر منه نتائج البحث والتحليل.
ولكن ماذا عن الجانب الآخر؟.
ما الكائنية الآثارية والسردية الشرقية التي نبحث في سياقها عن صورة الذات المحلية لكي نروي من خلالها وتتعين هويتنا السردية؟.
لقد أضافت مظاهر البحث العملي ومنها حقل سوسيولوجيا المعرفة المزيد من الدقة العلمية لتكوين البنى السردية الرافدينية وإعطاء صورة للذات الانسانية على نحو ما في ضوء النتائج المتضافرة لأن عمليات البحث تجري من قبل الآخر الغربي او الاميركي، ولعل المزيد من النتائج أيضاً يؤدي الى أن تتخلخل هذه العلاقات التي تقوم عليها البنى، في حالة ظهور نتائج جديدة، تهتز لها الهوية السردية الأنسانية و تمضي الى نفي تصورات سابقة وتستحدث وقائع كلاميه وملحمية جديدة مثلما حدث في أكتشاف ملحمة كلكامش في صورته المعرفية من نص يثبت وقائع العهد القديم السماوية الى أقدم نص ملحمي إنساني في العالم يستدعي شطب ملاحم يونانية مماثلة وإحلال نتائج جديدة تلقي المزيد من الضوء من أجل ضبط التصورات و المفاهيم، ويشبّه الدكتور محمد آركون"4" هذا الأكتشاف وتأثيره على العلوم الانسانية بثورة كوبرنيكوس في الذات المعرفية وتأثيراتها في المجالات العلمية، وأشار روجيه غارودي أيضاً الى إكتشاف هوية سرد ملحمية بعمق مضاف لهذا فان عمق الحقبة التي كانت الالياذة، تحدد فيها السرد الانساني معرفياً شطبت وحلت معها حقبة كلكامش في إعادة صورة الذات الانسانية بواسطة عمقها الزمني، أي قبل ألف وخمسمائة سنة من ذلك التعيين.
وهكذا يستمر التاريخ في سياقة السردي الذي تتحدد به صورة الذات الانسانية والهويات السردية وتنفتح في النتائج العلمية على تحولات مظاهر البحث العلمي، يستمر التاريخ في سياقه السردي من خلال التنقيب والروي بين إكتشاف الآثر وتحليله.
يؤكد بول ريكور على أن التاريخ يحافظ على وجوده وكينونته من خلال سرده باستمرار أي إننا إزاء تحولات وقائع سردية في صورة ذات تاريخية ثابتة لذلك" نحن نتابع مصير زمن مصّور يتحول الى زمن يعاد تصويره.
أن السرد التاريخي الرافديني"5" نشأ في صورته الوقائعية المتحولة سردياً باستمرار منذ كتابات المؤرخين والرحالة اليونانيين والرومان حتى إزاحة التراب والأنقاض عن بوابة عشتار ووصف الأجزاء الباهرة المزاح عنها التراب الى ليونارد وولي الذي يحمل مجرفة التنقيب في يد وكتاب العهد القديم المفتوح في اليد الأخرى إذ "كان وولي يحب ربط السلالم الثلاثية التي يتألف كل واحد منها من مئة درجة بحلم يعقوب حيث ورد في سفر التكوين إنه رأى سلما وكانت الملائكة تصعد عليه الى السماء وتنزل منه"6"، منذ إشارات هيرودتس وسترابو حتى تراكم المعارف في إكتشاف الحقب الرافدينية وخضوعها لمظاهر البحث العلمي المعاصرة.
وإذا كان ذلك هو السرد الرافديني في صورته الغربية والانسانية المستعادة فما هو الشكل التكويني لصورته المحلية التي درج عليها، وكيف ننشئ رويداً مصنع تصوراتنا الشرقية جوار المصنع الغربي بامتياز حقلنا الأرضي وما تخبئه رمالنا من أثر قديم لن نتبصره في خلايا ذاتنا ولم نعثر عليه في شبكة هويتنا السردية ؟.
لقد بدأ السرد الرافديني المحلي بمحاولات صنع المخيلة الآثارية من خلال مفارقة سردية تأسست فيها مديرية الآثار عشية تشكيل الدولة العراقية بمديرة فخرية هي السيدة جيروترود بل وهو إستباق يعجّل بأهتمام المؤسسة الادارية في ما بعد بتحقق منجز اصدار القانون الخاص بالآثار والتأكيد على إرسال البعثات الدراسية وفتح المعاهد الجامعية ورؤية المتاحف وصدور مجلة سومر، كما أن البنية الأساسية لتشكيل المخيلة الرافدينية ابتدأت بتعيين المواقع الأثرية في خريطة قابلة للتوسعة وألزمت المؤسسة الادارية نفسها بعَدِ هذه المواقع خارج عملية التخطيط والبناء، وهي أماكن للتنقيب والبحث أو الصيانة والترميم، إنها أرض مشاعة لحلم رافديني ناشئ لأول مرة منذ آلاف السنين.
ولعل العقود ما بعد الثاني والثالث أو الرابع والخامس وحتى السادس والسابع من القرن العشرين، لم تتمكّن المخيلة الرافدينية الناشئة من إضافة شيء من قبيل تبدي الذات المحلية سوى ترسيخ الخطاب الاستشراقي نفسه لكن بأدوات محلية غير انه يعد مهاداً أولياً لابد منه ومساحة بيضاء متوقعة من أجل التنضيد والفرز المستمرين.
هذا على صعيد الكائنية السردية التاريخية والواقعية أما كائنية السرد القصصي والروائي الخيالي فقد وجدت منصتها في الإنطلاق بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إذ أخذت أشكالا مماثلة بين نشأة المخيّلة الآثارية وبين طبيعة التقاليد الفنية والقصصية المتنامية حينئذ فكان النص القصصي يتجسد على محمول الأدبيات الآثارية الكبرى من الأساطير والملاحم وإنعكاسات مغزاها الانساني العميق في حياتنا اليومية ويتأطر مقيداً في سياقات فنية محددة ببناء الأحداث وحركة الشخصيات ومسار الحبكة القصصية حتى جاءت المحاولة لتسفر عن إعادة قراءات ومحاكاة معاصرة لتلك السرديات الكبرى في ما يشبه التطبيع والقولبة في سياق نص حديث ويمكن عدها سبيكة سردية جديدة على وحدة فنية مختلفة لها شبكة علاقات وزمنية سردية جديدة.
وإذا كان ذلك جزءاً من صورة الذات في سبيله الى إنشاء بعض الوضوح في سبيكة السرد القصصي الجديدة فان بقدر هذا الجزء سيكشف عن هوية السرد المأمولة ومتطلعة مثل خطوط موجية مختزنة للبيئة والأسلاف وذاكرة المياه تتقاطع وتنعقد بين المخيلة الاثارية الناشئة وبين سماء الرؤيا الحديثة التي تشكل تقنية النص الحديث وتسعى الى الاستنطاق والفهم في ضوء اطارها المعرفي الغربي.
يمكن الاشارة الى قصة تطبيقية للقاص محمود جنداري بعنوان القلعة"7".

عرض مقالات: