شاع كثيراً في الأوساط الاجتماعية والسياسية والثقافية، تعبير (ما بعد الأول من تشرين لا يشبه ما كان قبله ولا يمكن العودة اليه). وهذه هي الحقيقة، لكن فهمها وتفسيرها، اختلف من جهة الى أخرى. فالسياسي صاحب السلطة فهم منها ما يتعلق بسياسته وسلطته، وان هذه السلطة ستنفلت من بين يديه، وستذهب الى خصمه ولم ينتبه الى هذا السلوك الشبابي الجديد، وهذا التفكير والوعي الجديدين، وهذه الحماسة الشبابية البركانية، حماسة فجرها وعي جديد، وركام من المعاناة ومحاولات ابعاده عن عصره، وثقافة عصره، وما حصل فيه من تطورات هائلة: حضارية وعلمية وحقوقية، وبالتالي حرمانه منها.
في حين وجهات أخرى باركت هذه الانتفاضة واعتبرتها ثورة حقيقية بكل ابعادها وأهدافها وسلوكها على الأرض، وتحديداً المثقفين العراقيين منهم، الذين رأوا في وجوه الشباب والشابات، وجوههم هم، وسلوكهم وتطلعاتهم وثقافتهم في شبابهم، وخاصة في فترة السبعينات التي اعتبرت عصرا ذهبياً لثقافة العراقيين، وفنونهم الإبداعية في شتى المجالات، ومن مختلف الأجيال، وخاصة شباب تلك المرحلة، لذلك هم مؤمنون بأن (لا عودة الى ما قبل الأول من تشرين) حتى وان لم تحقق ثورة الشباب النصر السياسي راهناً ولكنه سيتحقق مستقبلا.
الحقيقة ان أسلوب الحكم السائد الآن، ومضمونه تتحكم به ثقافة الحاكم، وثقافة السلطة، التي لا تنتمي الى ثقافة العصر الذي يعيشه وهي بعيدة عن ثقافة الانوار والتقدم والتطور، كما انها بعيدة عن مضمون وقيم الثقافات لتي انتجتها الحداثة، وما بعد الحداثة. فثقافة السلطة التي أقيمت في اوربا في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وما زالت قائمة حتى الآن كان المثقفون المتنورون والمفكرون والاكاديميون هم الذين وضعوا أسسها ورسخوا جذورها، وبالتالي فان ثقافة هذه الفئات انعكست ايجاباً ورسخت أسس السلطة، وأنظمة الحكم في اوربا القائمة حتى الآن والمتجددة باستمرار.
غير ان المشكلة عندنا، فما تأتينا من سلطات الحكم تعتمد على ثقافة (كان يا ما كان) منذ بداية النهضة الحديثة، وتحديدا منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وثقافة سلطاتنا المتعاقبة مهما تغير شكلها تظل معتمدة على مصادرها التاريخية، وتظل تنظر الى حاضرها ومستقبلها من خلال ماضيها السحيق، وتظل تعد ما تعرفه غير موجود، ولا يمت بصلة لعاداتها وتقاليدها.
ولذلك تظل ثقافتها معتمدة على ثقافة (كان يا ما كان) وتكون مهيأة للاستبداد وممارسة القمع ضد كل من يختلف معها في الرأي.
هذا الأسلوب وفي هذا العصر المتفجر بالعلوم والاختراعات والتطورات التاريخية، انتج لنا هذا الأسلوب في الحكم وثقافة للسلطات المتعاقبة، وخاصة ثقافة سلطتنا الحالية، ثقافة لا تختلف عن ثقافة سلطة داعش الآتية من عمق التاريخ، والتي بدت منذ الوهلة الأولى غريبة في شكلها ومرعبة بأسلوبها المدمر، لأنها أتت في زمان غير زمانها، ومكان غير مكانها.
ولكن جيل الشباب العراقيين، جيل هذا العصر، جيل ثورة تشرين، فجّر من داخله ثقافة لا تشبه ثقافة ثقافة (كان يا ما كان) التي تبثها يوميا الكثير من القنوات الفضائية العراقية والعربية.
وقد عاش جيل شباب الثورة، الذين تتراوح أعمارهم بين (15- 25) عاما تحت سياط هذه الثقافة، عاشوا صراعاً مُراً بين ثقافة السلطة وثقافة العصر الكونية التي وضعتها بين يديه منجزات العصر واختراعات الانسان العقلية، بشكلها المادي والملموس.
الثقافة العراقية التي بدأت منذ بداية تشكيل الدولة العراقية توقفت منذ بداية الحروب وما تنتجه هذه الحروب من موت ودمار وراحت ثقافتنا تنزف تدريجياً عظمتها وقوتها وتألقها، دون ان يشعر بهذا الفقدان أصحابها، واستمرت الحروب حتى هذه اللحظة ولم يتبق شيء يمكن ان تنزفه تاركة فراغاً رهيباً سهّل عملية الزحف على هذا الفراغ من قبل أصحاب ثقافة (كان يا ما كان) التي اصطدمت اليوم بثقافة ووعي الشباب الجارف الممتلئ حيوية وعنفا شبابياً يبحث عن مكان له وسط هذا الخراب العظيم، لذلك اذهل هذا الإصرار الشبابي العالم وهو يبحث عن مكان له اسمه وطن. وطن خالٍ من ادران الماضي، حتى اجبر اليوم احد حراس هذا الخراب على الهرب امام تحدي الشباب للرصاص الذي كان يحتمي به الحكام وعلى رأسهم من كان متمسكا بالسلطة العليا لقيادة العراق.
أيها الشباب الثائر لكم المجد وللشهداء منكم الخلود.

عرض مقالات: