قدر المثقف أن يكون فاعلا في مجتمعه وبيئته وقضايا أمته، وقدره أن يكون منحازا لقضايا شعبه العادلة وآماله وتطلعاته نحو الحريَّة، ولا أتخيّل مثقفا لا تؤرقه هموم الناس أو لا يرف له جفن إزاء الجرائم التي تُرتكب يوميّا بحق شعوبنا المضطهدة، ولا أهمية لأيّ منجز إبداعي مهما كان مستواه ما لم يرافقه موقف واضح وصريح ينمّ عن انتماء حقيقي للإنسانية وقضاياها العادلة، فإنما الإبداع حصيلة تلك المحركات الوجدانية التي تحفر عميقا في ضمير المثقف.
وحسب جيرار ليكريك، فإنّ المثقف إنسان كوني، لا من حيث الظرف التاريخي والثقافي وحسب، بل بسبب رؤيته المهنية القديمة جدّا، وهي البحث عن الحقيقة في مختلف دوائر النشاط الإنساني.
إنّ ما يسمى معنى التاريخ لن يشكل معيارا وحيدا للحقيقة، كما أنّ أيّ خطابات أو ممارسات -ثقافية- ستكون نتيجة لذلك، أو ينبغي أن تكون نتيجة لذلك في الواقع، ضمن دائرة البحث والتقصي والنقاش والحوار والعقل، لأن تلك التأسيسات هي التي تشكّل أساس النشاط الفكري النابع من الحداثة كما يعتقد ليكريك.
لكن من جهة أخرى، ما الذي يجعل المثقف عاطلا عن هذه الرؤية والموقف الإنساني؟ في الواقع يعود الأمر إلى قضيتين بنيويتين، الأولى أن يكون تأسيس ذلك المثقف مختلا منذ البداية، وبالتالي عاجزا عن التفاعل مع قضايا الناس وهمومهم، والثانية أن يكون المثقف خاضعا لتوازنات ظرفية تحول دون انحيازه للحقّ والصدح به.
في ما يتعلق بمسؤولية المثقفين ومواقفهم الأخلاقية، لا تزال هناك أسئلة أخرى مثيرة للقلق. فهم كمفكرين في وضع يسمح لهم بكشف أكاذيب الحكومات، وتحليل الإجراءات حسب أسبابها ودوافعها ونواياها الخفّيَّة في الكثير من الأحيان.
لننظر مثلا إلى أقرانهم في العالم الغربي، فهناك على الأقل، من لديهم القوة التي تأتي من الحرية السياسية، ومن الوصول إلى المعلومات وحرية التعبير. وبالنسبة إلى الأقلية المتميزة منهم أو تلك الباحثة دوما عن الحقيقة، فالديمقراطية الغربية توفر لها السبل والتسهيلات كافة للبحث عن الحقيقة الكاذبة وراء حجاب التشويه والتحريف والأيديولوجيات والفوائد الطبقية، والتي يتم بواسطتها عرض أحداث التاريخ الحالي لنا. إن مسؤوليات المثقفين أعمق بكثير من الناس العاديين، نظرا للامتيازات الفريدة التي يتمتع بها المثقفون وقدرتهم -الافتراضية- على التقصي والتحليل.
أما بالنسبة لهؤلاء الذين يقفون في صمت وخمول، فان الكارثة المحدقة بإنساننا العربي قد تشكلت ببطء على مدى السنوات الماضية حتى أصبحت بديهة في الوقت الحاضر، فعلى أيّ صفحة من التاريخ سيجدون مكانهم الصحيح؟
في كتابه “مسؤولية المثقفين” يعتقد نعوم تشومسكي بأنّ المثقف المنحاز إلى الدولة والأساليب السياسية المنحرفة، هو مثقف خاضع إلى حد كبير للسلطة، يقدّم تبريرا علميا زائفا لجرائمها، وهم فقط أولئك الذين تتعارض السياسات بشكل لا يمكن السكوت عنه مع قانونهم الأخلاقي الشخصي، هم على استعداد لمقاومة السلطة بأنفسهم.
ويشدد تشومسكي على مسؤولية المثقفين في مساعدة مجتمعاتهم على فهم الحقيقة بشأن حكوماتهم، لأن “الدول غالبا ما تتصرف بشكل غير أخلاقي، منافق، مخادع، وغير عادل، وغالبا ما يبرر المسؤولون والنخب الأخرى هذه الإجراءات من خلال الخداع والأيديولوجيا”.
وانطلاقا من هذه الرؤية، يمكن للمثقفين مساعدة المواطنين الآخرين على التوصل إلى فهم أكثر صدقا لما تقوم به حكوماتهم وما يتم فعله باسمهم، أو الانضمام إلى المواطنين لبناء عالم أكثر عدلا وديمقراطية، ويتمثل أحد هذه الأدوار البناءة في مساعدة الحركات والمنظمات الشعبية في جهودها لتعزيز العدالة والديمقراطية، والمساعدة في جمع وتحليل المعلومات وتقديم الأفكار للناشطين المدنيين والجمهور الأوسع.

عرض مقالات: