تستدعي قراءة منجز شاعر كعلي الشباني وعلى أهميتها أن تمسك ببداياتها المؤثرة والتي تمثلت بقصيدته الكبيرة (خسارة) المكتوبة في سجن الحلة العام 1967 والتي نشرها ضمن (خطوات على الماء) مجموعة مشتركة مع الشاعرين عزيز السماوي وطارق ياسين 1970 ، والتي أشار اليها الأخير في مقدمته لمجموعة (أيام الشمس) بأن الكتابة عن تجربة الشباني لايمكن النفاذ اليها الا من خلال (خسارة).

(أيام الشمس) المكتوبة في أيلول 1972 – عن البراءة والليل في الأيام الأولى- كما مثبت بمقدمتها التي لم تزل بحوزتي وبخط يده والتي نشرها كاملة في مجموعته التي حملت ذات العنوان في العام 2001 وصدرت عن دار نينوى- دمشق جاءت مغايرة للأولى( خسارة) التي اتسمت بعنقوديتها.

فهذه الأيام يمكن القول بأنها مجموعة قصائد، أيام، مدارات، بيد أنها لن تنفصل عن تجربة شاعرها، أو لنقل عالمه الخاص ، اذ اتخذ كل يوم طيفاً شمسياً شعرياً من ايام تجربة الشاعر في زمن القصيدة وعلى التوالي( موسم، غربة ، سفر، شجاعة، حيرة، عودة، أغنية أخيرة) ولم ينشر الشباني أي من هذه الأيام – المقاطع سوى (عودة) في « طريق الشعب» أيام صدورها العلني قبل غلقها وتحديداً في العام 1974.

القصيدة هذه بمجمل أيامها اعترافات ومجابهات الشاعر من داخل ذاته المحشودة بحزنه ومغامراته وباحتدام مع الآخر – المخاطب الذي يعنيه – الذي في كل الأحوال ليس مفترضاً ، فللشباني تجربة مترعة بالحياة ، بيد أنها حياة شاعر مغاير لمعظم مجايليه ولعل من أبرزهم (عزيز السماوي وطارق ياسين).

تقف (الأم ) شاخصة على ضفة الفرات الذي أشار اليه يوما برسالة شخصية بأن – ما من تجربة له الا واغتسلت بماء دهلته الثقيل- لكنها تقف وبروحها من الخسارة والانكسار الحياتي مايعينه على البوح صراخاً: (من تكعد أمي بجي وتغسل البيت الصبح \ يابس حجينه الصبح/ والوحشه طيره اتنوح/ والفرح من صيد أمس\ حد للصبح مذبوح)

الا أن مشهد الأم يعود في ثالث أيام الشمس محاولاً قراءة الغيب ، ولاغرابة في أن يكون الشاعر قد استمد ذلك من موروثه الفراتي الديني الضاج بالمعتقدات وباشارة لقارئ الفأل: (أمي حرز للخبز.. كتبتني جوع المدن\ طشت الغيبة بخت.. حركت الشيله شمس.. والجيله بيدي عمت .. كالت: عمرمبخوت/ انته ورد للحزن وبلايه سجه أتموت).

الشعراء المثقلة تجاربهم بوعيهم الشعري لايمكن أن يفلتوا من جواهر تلك التجارب ، اذ يكونون في تيه قد يطمر ملامح التجربة بتراب غير طاهر كما حصل لبعض من أغرتهم المغايرة من خلال استخدام الرمز بفشل ذريع ولامجال هنا لتذكرهم، فكيف بشاعر كعلي الذي جاور الماء والأغنية ، وكل مايحيط به ويعينه على مسير في ليال يكتشف أقمارها مهما اشتدت حلكة ظلمتها الدامسة ، ولا شيء سوى الغناء ، حتى ولو كان غناء الخسارة ذاتها: ( أبيض يطير الشمس ربيت عله أوياي\بالفي خفت والشمس باكت أبروحي الماي\بالفي خفت وأنكتب فوك الخصر ظلي\ خلي الفخاتي تحن.. ياصاحبي

خلي).

أن كان للانفعالات التي تحيط بالشاعر ذلك القدر الذي يعينه على البوح فان لم تكن تجربته هي التي أوصلته لها تغدو باهتة الظلال ، ولذا كان( أزرا باوند) مصيباً يوم وجد في الشعر نوعاً من الرياضيات الملهمة التي تدفع بالشاعر لأن يزودنا بمعادلات انفعالاته النفسية والتي نجدها هنا عند الشباني: ( الباب علمني المعاند والنده الينزل جمر بالروح \ الباب علمني أبوي أشلوني يوكف حايط ابروحي واطك من المذله اتراب\والمفتاح حزن أول وكت والناس كلهه اتموت .. ويظل ضايع المفتاح).

حتى يصل ذروة انفعاله المشحون بالمرارة والخيبة وكأنه يعود بنا ليكرر ذات الخسارة الأولى ولكن بطيف شمسي هذه المرة: ( كالولي أكتب لحزنك قصيدة الناس تقراهه ركض\ كالولي اكتل الظيم ابكهاوي الناس سالوفه ثجيله\ كلتلهم نزعت البيت واتغربت كل الدنيه وحشه ابعيني لوحنيت).

في الخيارات الصعبة تأخذ الروح بشاعرها لتلك الضفاف الملتهبة بصراعات لن ينفك عنها لأنها غدت قدره الأبدي لاسيما تلك التي رسخها وجع الوطن المدمى منذ شباب الشاعر الذي أوغلت به عذاباته .. بسكونه وصخبه: (تلهث ابكل الجنح .. والوطن عش محترك/ وآنه الزغر عافني .. نخلة أعله جرف العشك\ تكبر واطيحن تمر .. تعطش وأسافر ماي/ للهامه بيه صبر.. ونته أعله ذيج وهاي).

بيد أنه ينتقل لممارسة ذلك الفرح الشبابي الغامر بالنصر- الحلم ، والشارع الذي يضيء به هتاف الحماسات الأولى حيث غرامه السياسي الأول ، وكم يتمنى الشاعر ذلك في حالات يحاول بها عبثاً ابعاد شبح الخيبة والاحباط .. ولربما اليأس: (تصعد تنوش النجم.. تنزل تجيس الروح/ اوكف وأكلك كضت روحي ابهواك أجروح/ ردني ولو لافته تترس الشارع ضوه\ تزهي السجج بالضوه يلطولك ايهلهل/ يمش الحزن بالهوه يلطولك اكحيله\ أكض لحد النفس واتحزمك جيله\ جاهو المهر لو يكف لويركض أبحيله).

أن فكرة ( الأمل) لاتراود الا الشعراء الذين أمسكوا بحتمية انتصار الانسان ، فكيف بشاعر كالشباني الذي عقد صداقته مع قضية الانسان مبكراً وشهدت تجربته الشعرية نموها المبكر أيضاً خلف قضبان (سجن الحلة) أواسط ستينيات قرننا الماضي عقب مغامرة فتية شجاعة مع ثلة من رفاقه الذين معه بذلك العمر ونفذوها بمدينة الديوانية ليرعبوا بها قطعان الحرس اللاقومي : ( بستان روحي صفت وينام بيهه الليل\ بستان روحي كبر بيه الطيور تنام \ هاكثر شوك الشعر بيك وتظل محتام). فموعده مع فارسه- حلمه ظل وعلى مدى سنوات من الجفاء والحميمية معاً قائماً غير قابل للزوال ولأنه فكرة الأمل ذاك: (غايب ينجم البخت يمته الشمس تندار\ بالدم خطوتك عشب بالموت أجيسك نار\ أترس الدنيه غنه.. بس مر عله سجتي).

هذه القراءة حاولت بها الدخول مرة أخرى الى عالم علي الشباني الشعري والذي أجده قد ظلم كثيراً وتلاقفته في سبعينيات القرن الماضي سياط نقد أحادي ، لايخلو من حساسيات شخصية مبعثها الشللية أن لم يكن الحسد الثقافي.فهل ثمة مشروع نقدي أعم وأشمل لتجربة فذة في شعر العامية العراقية ممثلة بهذا الشاعر الذي يصعب تكراره.

عرض مقالات: