إذا ما سلمنا أن الثقافة هي "الكل المركب الذي يحتوي على النظم الاجتماعية والعادات والأديان واللغة والفنون والتقاليد والشعائر والطقوس والاقتصاد والسياسة والأعراف والقيّم والمعايير الاجتماعية وكل ما يكتسبه الفرد بوصفه عضوا في مجتمع ما" بحسب إدوارد تايلور فان تدمير أي عنصر من هذه العاصر كفيل بإسقاط العناصر كلّها، وهذا هو بالضبط ما حصل للثقافة العراقية بدءاً من 2003 وانتهاءً براهنية ما يحدث في العراق.

لقد عمَّ الظلم البلاد والعباد، واستشرى الفساد حتى شمل مرافق الدولة كلّها، وكثر سراق المال العام حتى دخلت السرقة ضمن مفردات الحياة اليومية. وشاعت الأفكار الطائفية التي عززوا بها نهبهم للثروات فسادت واقعنا فئويا زمرة من ساسة جلسوا على دست الحكم ليفسحوا الطريق أمام زمر أخرى دعمتهم فيما يرغبون ويخططون. لقد كان العنصر الاقتصادي وهو برأيي اهم عناصر سحق الثقافة المجتمعية قد بدأ انهياره الكامل عندما أصبحت هذه الفئة تستحوذ على كل مرافق الدولة وقطاعاتها، وقد تضخم حجم سرقاتها من الملايين الى البلايين وتركت الناس يكتوون بنار الفقر، وجحيم العوز، وحاجتهم الماسة لأبسط الخدمات، فضلا عن إذلالهم وإذاقتهم المر والبؤس واليأس من حياتهم لسنوات حتى ظنوا أنهم  قد دجّنوا الناس على الواقع الجديد وكاد بعض المراقبين لما يحدث في العراق؛ يعلن يأسه الكامل من نهضة الشعب ثانية خاصة وقد ذاق ويلات حروب لم يخرج منها إلا بالمزيد من الفقر والجوع، والنزيف المستمر، والأمراض السرطانية، وغيرها من الأمراض المتوطنة.

أما العنصر الثاني الداعم والمساند لهذه الفئة فهو الدين الذي ارتدوه قناعاً يحصنهم ضد يقظة الناس ورفض ما آلت إليه الأمور ليبدأ مشوار جديد لم تشهد البلاد مثله من قبل عبر تاريخها الحضاري الطويل، وقد استندوا في هذا على إثارة الفتن الطائفية والمذهبية وحروبها التي أبعدت الشعب عن مطالبه الحقيقة لتفوز هي بما أرادت لنفسها ولأحبابها القابعين وراء الحدود. لقد أعادت الى الناس بعض طقوس وشعائر كان النظام السابق قد حرمها عليهم وخاصة ما يتعلق بطقوس عاشوراء فكسبوا ود طائفة طالما شكت من مظلوميتها فارتضت بما تفعله السلطة مقابل استمرارهم بممارسة شعائرهم الخاصة.

التبدل المفاجئ والسريع لهذه النظم فرض نفسه على المجتمع العراقي فأحدث تبدلا في مفردات الحياة اليومية لغويا وفنيا، وظهر ما أطلقوا عليه المسرح الحسيني على سبيل المثال لا الحصر، كما ساهم رجال الدين ببث أفكارهم المتطرفة علانية وجهرا، واطلقوا فتواهم المظللة المجللة برغباتهم الجنسانية المختلفة وشهواتهم المكبوتة فحللوا الحرام، وحرموا الحلال انطلاقا من تلك الشهوات والرغبات، واستبدلوا العادات الشائعة بأخرى غيرها حتى تبدلت القيم والمبادئ وسادت القيم الجديدة التي تلاءمت مع كل ما يطمحون الوصول إليه. لقد انتهزت هذه الفئة كل فرصة مرت بهم سلبا أو إيجابا وتركت الباب مفتوحا أمام الدواعش الذين ساهموا بتعزيز السرقات العظمى وبدافع الانتصار على الدواعش الذين أسسوا لهم دولة داخل دولة العراق استنزفوا كل ما يمكن من الثروات التي كان يفترض صرفها على السلاح والعتاد والكل يعرف أين ذهبت تلك الأموال. تحت مسوغ الصرف على الحرب؛ حرم شبابَ العراق من فرص بناء حياتهم والتخطيط لمستقبلهم، وبدلا من مساندتهم ودعمهم تركتهم يستجدون في شوارع المدن لقمة العيش لهم ولأبنائهم الجوعى. في هذه الفترة الزمنية المحصورة بين سقوط النظام البعثي السابق وبين الأحداث الراهنة لم يحصل شباب العراق على أي حق من حقوقه المشروعة، ولما لم تكن للشباب مرجعيات سياسية من أي نوع ولا مؤثرات فكرية من أي فئة فكان لا بد من خوضهم عملية الرفض التام لسلطة الدولة عن طريق التظاهر العفوي الذي فك ارتباطه منذ اليوم الأول من الأحزاب السياسية والإسلامية والحركات والشخصيات التي فرضت نفسها على الواقع المعاشي بدعوى أن لها القدرة على القيادة الجماهيرية الحقة. ولم يكن غريبا على فئة الشباب أن تقاوم أي قوة غاشمة مهما بلغت درجة قسوتها وعنفها، وقد ظنت السلطة وشركاؤها انهم قادرون على ليّ اذرع الشباب بقتل عدد منهم فأثبت الشباب لهم انهم القوة الجديدة التي لا يستهان بها، قوة قادرة على المضي قدما على الرغم من التضحيات الجسام بالأرواح والأجساد. ومع استمرار تظاهراتهم التي يدل الواقع على انها لن تتوقف راحت تزداد عددا، وتتعزز بالصمود الفولاذي والإرادة القوية مدعومة من كل الفئات العمرية. ولا ننسى كيف أن طفلا في الثانية عشر من عمره راح يتقدم نحو العساكر غير هياب بأزيز الرصاص وهو يرفرف براية يتحدى بها جبروت المتسلطين.

من هذا الفعل الثوري الواضح نستطيع القول إن المستقبل ينتظر الشباب ليكونوا في مواجهة الفاسدين والمارقين والدخلاء والغرباء.

عرض مقالات: