في رواية "الغريب" لألبير كامو، تتداخل بل تمتزج بعمق الجدوى باللا جدوى، البطولة بالتفاهة والحقيقة بالأسطورة، على أساس الممكن الأبدي.
أما في رواية "الأيدي القذرة" لجان بول سارتر، فيتداخل ويتطابق، السبب باللا سبب الأمل باليأس، القلق بالطمأنينة، الواقع بالخرافة، فهذا العالم يرفض السكونية والسدود، اذا هو يستند الى الحركية الدائمة، المنفلتة من الأزمنة، ولو كانت تشكل الواقع،وان الحدث فيها هو حدث طارئ، آني، مثلما فعل ميرسو عند القتل او شعور هوغو اثناء القتل، او عند قتل المرابية العجوز من قبل راسكولينكوف، وذلك لفقدان التوازن ووجود الصدفة، والحدث مرتبط بفعل انساني، لا تتشكل خطوطه لأول وهلة، ولا تضاء جوانبه، الا بعد قراءة نصية متعمقة – متفهمة، تجعل الكتابة عنه في مجال النقد سياق خارج النص بينما سيكون التأليف كتابة داخل النصْ، هذا النقد سيكون اولاً وقبل كل شيء عمل تفسيري لنصْ معين من اجل اكتشاف معناه العميق في نظريات مهمة النقد بالنسبة اليه محض شكلية تنطلق من النصْ الى ذاته في الامام ليكون علامة وراءه والعلامة لديه مركبة من دال ومدلول، وعمل الناقد هو بالضبط أن يدفع المدلولات الى وراء بصورة لا نهاية لها، وفي كتابه الأول " الكتابة في درجة الصفر " 1953، يعلن بارت عن انبثاق نقد جديد باطني، لا يهتم الا بالنص وحده، مع تصور رومانسي خالص .اما النقد عند تودوروف فيكون تأويليا، وقد تعرض بارت لهجوم عنيف من قبل ريمون بيكار لعدم الاهتمام بالتاريخ، والابتعاد عنه، ولكنه دافع عن نفسه في "النقد والحقيقة" عن طريق الدعوة لتفسير الرموز في حرية كاملة، اي الى نقد يخلق العمل الفني بصيغة مغايرة، واتهم بارت ايضاً بالمنهجية الانتقائية التي وقع فيها.
مقابل موقف بارت هذا الذاتي، نجد موقفاً موضوعياً لدي سارتر، فالنقد بالنسبة لهذا الأخير موضوعي اكثر مما هو ذاتي، باعتبار أن الناقد يخضع في النهاية لموضوع موجود خارجه، لذا فالناقد يقع ضمن الالتزام التاريخي الكامل، وضمن المواقف الإنسانية، للعمل على كشف الإنسان والعالم، ويتفق معه في هذا تودوروف، ويخلق عالماً حالماً يخلق اللا واقع، يخلق الوهم الذي يختفي حالما يرتطم بالوجود الحقيقي ورعبه.
والعلامات التي لدي بارت هي كلمات لدي سارتر .. واللغة عند سارتر وسيلة بينما عند بارت غاية محلقة، وعند تودوروف حوارية.
والنقد الوجودي السارتري غير النقد الوجودي الالماني الحديث الذي طالب بالعودة الى النصْ مع قراءة متباينة له، وهذا رد فعل على الشطحات التي مارسها مؤرخو الروح الالمانية والذين مهدوا واستسلموا للأيديولوجيا النازية وتعاطفوا معها بعد زوالها كاميل شتايغر، وهو سويسري، ونهجه في النقد تفسيري، مثقف واسع الاطلاع ولكنه لا يتذوق و لا ينسجم مع الادب الحديث كله .
وسارتر لا يمنح اهتماماً للنصْ او الاثر الادبي بقدر ما يمنحه للكاتب، وترتسم معاني الكتاب عنده من خلال معرفتنا بالظروف التي كتب فيها والغاية التي كتب من أجلها، بينما بارت يعطي الاهمية القصوى للنص أكثر من كتابته لان كتابة النص هي طريقة للتفكير في الادب وليست طريقة نشره.
أما تودوروف فيعتقد بأن عمل الناقد يضيف بالضرورة شيئاً الى النصْ، لان الناقد يكتب شيئاً لا يكتبه النصْ، حتى لو ادعى هذا الناقد انه ما يقوله يتطابق مع النصْ، وفكرة الناقد تخضع لأيديولوجيته ولثقافته ومدى عمقها واتساعها ولكن التفسير المعطى يبقى الى النهاية ايديولوجياً دائماً.
أما النقد الماركسي فيقوم بنقد النصْ من خلال ربطه بالظروف الاجتماعية الخاضعة للتاريخ . وهذا ما فعله لوسيان غولدمان عند مقابلته للبنيات الخيالية للنص مع البنيات الاجتماعية بحيث يستطيع تفسير النص والوظيفة المناطة به، وكل فكرة وكل أثر لا يكتسب دلالته الحقيقية الا عند دمجه في مجموع حياة معينة ومجموع تصرف معين او يعتقد غولدمان ان قراءة نص ما من خلال المنظور المادي – الجدلي – التاريخي لهي دلالة موضوعية، ولا يشترط ان تتطابق مع قصدية المؤلف الذاتية.
وقد وجهت انتقادات كثيرة لنقد غولدمان الاجتماعي منها عدم كفاية تفسيرات البنيوية - التوالدية "التكوينية" للعلاقات الجدلية بين الفرد – المؤلف وبين المجتمع، وجهله لسلطان اللغة، ولكنه كان على دراية عميقة مع فطنة بالماركسية ومعرفة شمولية لنصوص هيغل ولوكاتش.
وقد صاغ غولدمان منهجه النقدي في كتابه المهم " الاله الخفي "، دارساً ومبيناً ربطه المأساة والرؤية التراجيدية بالتغيرات الاجتماعية لـــ باسكال وراسين. ويبقى مرجعاً هاماً في مجال النقد الاجتماعي.
والنقد الماركسي بمجمله منبثق من النقد الواقعي للقرن التاسع عشر في الذوق والنظرية، ويعتبر علماً موضوعياً يدرس الظروف الاجتماعية للنص الادبي ويكشف عن المعاني الاجتماعية – الايديولوجية الكامنة فيه، ويظهر ذلك جلياً لدي لوكاتش عندما يزاوج الذاتي " العاطفة الفردية " والموضوعي "الجوهر الاجتماعي" عند تحليله لمصطلح الافراد التاريخيين العالميين في المسرحيات البرجوازية والعمالية وجعل الانسان كائناً متحولاً باستمرار وبدون انقطاع داخل رحم التاريخ من خلال الاختيار الحر، أما الإنسان عند بارت فمحكوم عليه بحرية الاختيار على حدود التاريخ وتضامنه معه، وانسان سارتر يحيا في الأسطورة السحرية لا في الجبرية – التاريخية، مرتداً الى التاريخ بموضوعية – ذاتية متحولة الى ذاتية صرفة .
وجميع الاتجاهات النقدية الحديثة، تتفق بتمزيق الوعي البرجوازي كلا حسب طريقته ومفهومه للكتابة النقدية، فالكتابة النقدية تكون بريئة او محايدة عند بارت وتسمى "درجة الصفر للكتابة" او البيضاء ايضاً – وهي تقوم "بتجاوز الادب عن طريق اللجوء الى نوع من اللغة القاعدية المبتعدة، في آن عن لغات الحديث وعن اللغة الادبية الخاصة"، والكتابة الملتزمة عند سارتر تكون بعرض ازمات الانسان والعصر، ودفعها الى الأمام، وذات رسالة اجتماعية هدفها تعرية الأزمة وتفجيرها وذلك يصاحب اتخاذ موقف من قبل الكاتب او الناقد.
إما الكتابة عند لوكاتش وغولدمان فهي جرأة الابتكار الادبي المتضمن الحقيقة التاريخية بدون تغرب الناقد عن المجتمع كما في الادب البرجوازي.
وقد ظهر التصدع والشروخ في الايديولوجيا البرجوازية عند صدور البيان الشيوعي لماركس وانجلز عام 1848م، وانقسمت الثقافة الى شقين مع ظهور ايديولوجيتين تقدمية وديمقراطية تحتهما ثقافة رجعية آخذة بالانسحاب، وتحول النضال البرجوازي ضد النظام الاقطاعي الاستبدادي ورجال الدين "الكهنوت" قبل ثورة 1848م الى نضال طبقي وصراع ايديولوجي من قبل الطبقة الكادحة المهددة حكمها، مع دخول البروليتاريا للمرة الاولى المسرح التاريخي – العالمي رغم اندحارها حينذاك، وبقاء البرجوازية الموجه الايديولوجي للتطور الاجتماعي، وتقوم بتغيير ديمقراطيتها الثورية الى ليبرالية، ويستمد بارت في " درجة الصفر " فكرة التعددية للكتابة الادبية بعد / ومن ثورة 1848م، وعلى الكاتب البرجوازي ان يتحمل وضعه او يحتقره .
ووعيه يصنع اللغة الادبية، والعمل الادبي يتحقق من التقاط لغة الواقع .. التي تعمل على فضح الوعي البرجوازي بوضع نفسها بوصفها موقعا محايداً.
ويربط بارت الوعي بإشكالية اللغة والمجتمع المنحدرة من التاريخ والحاملة له، والهادمة لهذا الوعي حالما تضع اشكالية أخرى، ويقر بوجود عدة ايديولوجيات متعايشة، متداخلة، لخلق ابداع ادبي.
والوعي الماركسي خلق للذات الانسانية ضمن المفهوم العيني التاريخي – الاجتماعي للإنسان و"ان الواقع الموضوعي يوجد بمعزل عن الوعي الانساني الذي يعكسه"، واللغة هي انعكاس شرطي للوعي تدين باحتياجها للتغيير كما في لغة بريخت، وتكون لغة نقدية جيدة متوثبة، ويحدث الفصل الادبي الناتج عن الوعي في اللغة، فاللغة متوترة او مرسلة مجبرة على الكشف عن الغموض في وجهات النظر المتعددة ضمن سياق الواقعية خارج ضيق الافق والمحدودية والتقليدية اي واقعية حديثة .
والتيارات النقدية الحديثة، خرجت جميعها من رحم التيار الواقعي، ومن استقلالية الوعي – الانساني المنعتقة من عبودية الشكل، والمنفلتة من الازمنة، والمتجاوزة نفسها باستمرار دائم لتكون الوجه الناصع للعالم.
وتتفق هذه التيارات تلقائياً رغم انشطاراتها وانشقاقاتها بأن حجر الاساس او المحور او القاعدة عندها هو الانسان، السائر نحو ادانة وفضح وتعرية وتمزيق الوعي البرجوازي، ولتحقيق الحلم – الواقع الافضل.

عرض مقالات: