يشهد الوسط الثقافي في العراق، على سبيل المثال، جدلا واسعا هذه الأيام بشأن ماهية المثقف الطائفي نتيجة لانتشار الخطاب المشوّه وتداخل الأحداث والصراعات التي كانت بمثابة الهزات الارتدادية لزلزال الاحتلال وما خلّفه من ممارسات هجينة وتحطيم للبنى التحتية للدولة العراقية.
وإذا كان المثقف بشكل عام يتّصف بعمق الرؤية للأحداث السياسة والقدرة على التحليل واستنباط النتائج المتوقعة، أو هكذا يفترض على الأقل، فإن وقوع هذا المثقف في حبائل الطائفية والانسياق وراء الخطاب الطائفي السائد هذه الأيام، قد يشكّل علامة استفهام كبيرة في الواقع. وبغض النظر عن المصادر التي يستقي منها المثقف رؤاه ومواقفه، وطبيعة أدواته وقدرته على قراءة الأحداث، فإن الشعور الإنساني الذي يفترض أن يتحلى به قد يشكّل حائط الصدّ الرئيس بالنسبة له للحيلولة دون الوقوع في هذا المنزلق الخطر.
لقد تربت أجيال كاملة من المثقفين العرب على الطروحات الأيديولوجية المختلفة التي كانت سائدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، قبل أن يسود الخطاب الديني لاحقا ويغطي على هذه الأيديولوجيات الجاهزة، الأمر الذي ولّد شعورا متناقضا لدى المثقف في نظرته للأحداث من حوله، وفي مرحلة من المراحل كثر الجدل والنقاش في شأن ماهية أنظمة الحكم الدكتاتورية الحاكمة في بعض البلدان العربية والاختلاف في توصيفها، وبالنسبة لبعض المثقفين العرب في المغرب العربي على سبيل المثال، ما زالت النظرة لدكتاتوريات المشرق العربي مختلفة تماما، وطالما ينصدم الكثير من المثقفين بمواقف بعضهم البعض عندما يلتقون في المؤتمرات أو الفعاليات الثقافية العربية نتيجة لتلك المواقف المتناقضة. وإذا كان الكثير من المثقفين يخفي آراءه الخاصّة بهذا الشأن تجنبا للتصادم أو حماية لمصالح معينة في مرحلة من المراحل، فإن القليل منهم يجاهر بتلك الآراء صراحة ضاربا بمثل تلك اللياقات عرض الحائط.
وينطلق أغلب أصحاب الرأي القائل بأن الدكتاتوريات في المشرق العربي قد خدمت قضية العرب الكبرى، ويقصد بذلك القضية الفلسطينية، متناسين بذلك الجرائم الكبرى التي ارتكبتها تلك الدكتاتوريات بحق شعوبها وتبديد ثرواتها وتهجير الملايين من مواطنيها واتخاذها للقضية الفلسطينية ذريعة أو غطاء لبناء آلتها القمعية بدعوى تحرير فلسطين، في حين يتمحور الغرض الفعلي لتلك الآلة بحماية تلك الأنظمة وفرض سيطرتها على مقدرات الشعوب التي تحكمها. وبقدر تعلق الأمر في العراق، لا أتصور وجود مثقف لا يؤمن بالحياة المدنية كأسلوب عيش معاصر ونظام حكم محايد وعملي من شأنه الحفاظ على كرامة البشر وصون ممتلكاتهم وضمان مستقبل أجيالهم المقبلة. إن ركوب الموجة الطاغية حاليا والاستسلام للخطاب السياسي الطائفي الذي يحاول الإسلام السياسي فرضه في العراق، قد يجرّد المثقف من أهم أدواته، وهي القدرة على قراءة الواقع السياسي والاجتماعي بصفاء ذهني ونظرة ثاقبة لما يجري، كما أن اتخاذ المواقف السياسية المتشنجة والوقوع تحت تأثير وسائل الإعلام الطائفية قد يضعان المثقف العراقي في عزلة مطبقة عن الواقع الثقافي العربي الذي يعد حاضنته الفعلية، ناهيك عن تعطيل دوره المؤثر أو المنشود في تغيير الواقع السياسي المزري.
بالتأكيد هناك غالبية عظمى من المثقفين العراقيين الذين ما زالوا يؤمنون بقيم الحريّة والعدالة الاجتماعية ويسعون بقوّة الى ترسيخها في مجتمعهم، لكن إصرار البعض من المثقفين العرب على مواقفهم المتشنجة وفق رؤية مشوهة للواقع السياسي المزري الذي كان سائدا، يفقدهم إيمانهم بقضية المثقف العربي الواحدة التي لا تتجزأ وهي قضية حساسة للغاية قد لا يعي الكثير من المثقفين العرب خطورتها وتأثيراتها المستقبلية.

عرض مقالات: