مسرحيون راحلون" اصدار جديد أطلّ به الاستاذ صباح المندلاوي قدم له سامي عبد الحميد، الكتاب عرض مقنع لسيرة نخبة من فناني المسرح الراحلين هم اعمدة المسرح العراقي وكان لهم تاريخ حافل بالعطاء ودور كبير في اثراء الحركة المسرحية من خلال كم هائل من الاعمال المسرحية والسينمائية التي قدمت خلال زمن الوهج الجميل فتركوا بصمة ثبتت هوية المسرح العراقي، والمؤلف يحدوه الأمل في اصدار الجزء الثاني ليكون متمماً لسيرة ذاتية لكوكبة اخرى تركت بصماتها ايضاً. نحن امام مقارنة بين ما قدمه هؤلاء المبدعون وما نشهده حالياً لواقع "المسرح" حيث تعاني الخشبة الآن من شحوب لونها وتراكم الغبار عليها. وبرحيل هذه الكوكبة اصبحت فرصة تقدم الحركة المسرحية في العراق صعبة جداً ما لم يتم اتخاذ القرار الجريء والجاد في انقاذ وانعاش هذا الفن.

يستعرض الكتاب ما عانته الثقافة والمثقفون من اشكال الاضطهاد والملاحقة والتهجير كان ابسطها مصادرة بعض النصوص تحت عنوان – لا يخدم المرحلة – فكانت سلطة القرية آنذاك ترغم الجمهور على تناول الاطباق الفاسدة . المندلاوي يذكّر انه لم يرق لصاحب القرار آنذاك ان يطلع الجمهور على القضايا الملحة لدى شعوب العالم وعلى أممية الحدث الساخن واقتصر خبره الاعلامي على نطاق ضيق ومفاهيم متعصبة ضيقة، على سبيل المثال تم حجب عرض مسرحية "دائرة الفحم البغدادية" بقرار سريع ساذج ومنها ايضاً مصادرة نص للكاتب نفسه بعنوان "تعال معي الى شيلي" اي تعال معي وشاهد الانسان الذي طحنته الدكتاتورية في ليلة سوداء. لم يذهب المندلاوي الى شيلي وانما تم اقصاؤه وظيفياً الى منطقة نائية، ومثلما لم تلق هذه الاعمال الاذن الصاغية يتكرر الفعل اليوم بصفحة اخرى هي الدرجة اللامتناهية من الانحدار والاسفاف والتهريج والزعيق ليعتلي الخشبة بضعة مهرجين وغجريات تقمصوا ازياء الفنانين فتلاشت الذائقة الفنية بتلاشي "النصوص"، فكانت النتيجة هي تجويف الانسان من الداخل وافراغ عقله من كل محتوى. لم يعد هناك بريشت.. أعنى عوني كرومي. لم يعد هناك هاملت وكاليغولا وعطيل وبونتيلا.. والنخلة التي زرعها غائب اقتلعت من جذورها بعد ان كانت تساقط رطباً جنياً. لم يعد هناك جيران ولا ذكريات ولا قصائد . . جلال وقاسم وجعفر ويوسف وشوقي وزينب وداود رددوا "اعطني خبزاً ومسرحاً اعطيك شعباً مثقفاً" لكن الواقع السياسي فرض على الواقع الفني ان لا خبز ولا مسرح بعد ان تلقى هؤلاء الضربات الموجعة وتقاذفتهم طرقات ومنافي بعيدة، وصل الامر باستخدام اساليب تقشعر لها الابدان ليدخل كاتم الصوت الى غرفة من يملك الشرعية في الوقت الذي فقد الآخر شرعيته. ليس مجهولاً من ضغط الزناد على الفنان المسرحي هادي المهدي الذي ظل يصدح "ان الحياة تبدأ غداً".

المندلاوي طالب كثيراً في خواتيم نصوص كتابه هذا ولو بإطلاق اسم فنان على احد الشوارع او اقامة نصب لهذا الفنان او ذاك. . فقد آن الاوان لتتوج ساحة التحرير بتمثال لبطل من هذا الزمان. هاملت تحت نصب الحرية وايقاد الشموع هناك.. وآخر وآخر.. هذا الوفاء هو جزء من الوفاء الذي يحمله المؤلف.

في الكتاب (48) شخصية ما بين الاخراج والتمثيل والتأليف نجحت في توظيف الارث العالمي والعربي والمحلي، اطلع القارئ على اسماء لربما لم يسلط عليها الضوء اعلامياً. هنا استعاد البعض طفولته بعدما استذكر العلامة المضيئة في سماء مسرح الطفل منتهى محمد رحيم، كاظم الخالدي الذي مازال البعض بانتظاره. سالم شفيق الذي فرّ من النظام، قاسم مطرود النابض بحب الوطن، كريم جثير المهاجر. مثلما قدم الاساتذة الكبار وعطائهم الثر ولم ينس سيدات وايقونات المسرح زينب وناهدة الرماح وزكية خليفة ثم عرج على رواد التوثيق المسرحي وكتابه محي الدين زنكنه ونور الدين فارس وجليل القيسي واحمد فياض المفرجي وآخرين من باقي الاسرة الذين احبهم الجمهور والتصق بهم ليجد القارئ المتعة اثناء ولوج عالمهم فيما تسرد ذكريات شيقة عن تلك الايام.

"مسرحيون راحلون" وثيقة مرجعية تؤكد قدرة المؤلف المتميزة في تسلسل الاحداث وقدرته على ابراز مكانة الفنانين الاصلية، وهنا اتساءل: أليس من الاولى لصاحب القرار في اكاديمية الفنون الجميلة ان تكون هنا نسخة لكل طالب اختصاص لأجل صقل ثقافته ذلك لأن الكاتب هو الخارج من رحم هذه المؤسسة وهو صاحب تجربة وارتباط في التوثيق امتد لعقود، فضلا عن اختياره كأفضل شخصية اعلامية لعام 2018 من قبل مؤسسة روزميديا للاعلام .

عرض مقالات: