بعد غربة طويلة عن الوطن العراق ظل ينزف حنينه وحبه عبر احساس عال بالأرض التي ينتمي إليها، ولا يمكن للغربة ان تذيب كتل الحنين والشوق في داخله، يتألم على ابناء بلده بهدوئه وطيبته العراقية الجنوبية التي تميزه عن الكثيرين أنه الكاتب والمترجم حسين الموزاني الذي رحل عن عالمنا في شهر ديسمبر من عام 2016 وكان رحيله بمثابة خسارة كبيرة منيت بها الأوساط الثقافية العراقية في الداخل والخارج. ولد الراحل حسين الموزاني في مدينة العمارة جنوب العراق عام 1954 ولقبه الموزاني يرجع الى سلالة قديمة وعريقة جدا يعود نسبها الى بني هاشم عائلة النبي محمد (ص)، ومنذ طفولته انتقل الى العاصمة بغداد ليكمل دراسته وينتمي للحزب الشيوعي العراقي وبعد انهيار الجبهة الوطنية أضطر لمغادرة العراق الى لبنان بسبب نشاطه السياسي ومعارضته لنظام البعث  وعمل في الصحافة داخل بيروت ثم تمكن من الوصول الى المانيا التي عاش فيها اكثر من ثلاثة عقود ونصف ، وعند وصوله الى المانيا درس الأدب الألماني واللغة العربية والعلوم الإسلامية في جامعة مونستر وعمل محررا في اذاعة وتلفزيون دويشه فيله العربية  DWفي برلين كمحرر للقسم العربي , ترجم العديد من الكتب والروايات عن الألمانية الى العربية وكتب العديد من كتبه باللغة الألمانية وفي عام 2007 حاز على جائزة شميسو الألمانية التي تمنح لأفضل الكتاب الأجانب الذين يكتبون باللغة الألمانية عن روايته ( منصور ، عطر بلاد الغرب )  وقد وصفت لجنة الجائزة بتقريرها عن رواية الموزاني بانها تحفة أدبية . حسين ورغم تكريمه من قبل الألمان كان دائما يشعر بأنه لم يحظ بالتقدير اللازم لأعماله من الجانب الألماني، يكتب بما يراه لا كما يريده القراء والناشرين الألمان. ترجم حسين الموزاني رواية طبل الصفيح للروائي الألماني الحائز على نوبل (غونتر غراس) وتعتبر ترجمة حسين لرواية طبل الصفيح من أفضل الترجمات بالرغم من كبر حجم صفحاتها التي تجاوز التسعمائة صفحة. حسين يكتب الرواية والقصة القصيرة وقد أصدر العديد من الكتب بلغة شعرية مكثفة، لغة واضحة المعنى والدلالة، لغة تقودك الى ما تريد في قراءة الموضوع وثيمته بدون زوائد وفذلكات لغوية. في عام 2004 زار الموزاني وطنه الأم العراق الذي كان يحلم به بعيدا عن الدكتاتورية لكنه صدم بالواقع المرير الذي يعيشه العراق ولم يجد مكانا له داخل وطنه فعاد الى المنفى مرة اخرى ثم بعد سنوات كرر زيارة اخرى الى بغداد على أمل ان يستقر فيها لكنه لم ير الأجواء التي تشجع على العيش فيها ليعود مرة اخرى الى المنفى منكسراً حزيناً! وقد سجل مشاهداته في كتابه) أعوام الجمر والرماد) وهي تجربة عن خيبة الأمل في حلم العودة الى الوطن المثخن بجراحاته التي لا تندمل. ومن قبل كتب حسين الموزاني روايته (اعترافات تاجر اللحوم) التي جسد فيها مأساة العراق عبر تاريخ حافل بالحروب والدم والحصار وقد ربط تواريخ سياسية ما بين العراق ومصر والأخيرة درس فيها الموزاني ونال درجة الماجستير في أدب نجيب محفوظ. صدرت رواية الموزاني اعترافات تاجر اللحوم عام 1997 عن دار الجمل، وبعد سنوات صدرت طبعتها الثانية وترجمت الى الألمانية.

ومن اصدارات الراحل حسين الموزاني مجموعة قصصية بعنوان خريف المدن ، وكتاب عالمان متوازيان وحارس المهدي المنتظر وكتب اخرى .نام حسين الموزاني في بيته البرليني ولم يصحُ في الصباح وقد نقل جثمانه من برلين الى بغداد ومنها الى مقبرة وادي السلام في مدينة النجف الأشرف بعد رحلة مريرة من الكفاح والنضال في حقول السياسة والثقافة والأدب والمنفى الطويل الذي لم تأنس له روحه الطيبة ، لقد عرفت حسين الموزاني في المنفى منذ سنوات طويلة وكل ما اكتبه عنه ويكتبه عنه الأصدقاء هو قليل بحقه ، أنه انسان مليء بالمشاعر وحب الناس والوطن وهو شعلة عراقية كانت تنير طريقنا في المنافي البعيدة ، لم انس زيارته لي في بيتي داخل العاصمة اوسلو او لقائي معه في باريس وحديثي معه الشبه يومي عبر الهاتف ومقالاته اليومية التي يكتبها في الأنترنيت وانتقاداته الحادة للوضع العراقي وخوفه من ضياع وطن لم يعش فيه ، لكن حبه وشغفه بوطنه جعله اكثر حرصا عليه من ساكنيه .

وعن اعماله التي كتبها للعراق في اعترافات تاجر اللحوم يقول حسين الموزاني: (أعمالي كلّها تدور حول العراق في الواقع، ولم أتناول موضوعاً آخر سوى العراق.. صرت أنظر إلى هذا البلد باعتباره ماضياً وذكريات وصوراً قديمة. وبهذا المعنى فإن الكتابة كانت محاولة لتحييد الذكرى وتسكين الألم قدر المستطاع، لأنّ فقدان الوطن كان أمراً مؤلماً وقاسياً على نحو لا يطاق. ثمّ إنّ العراق منجم لا ينضب للأحزان والمآسي والدمار والإبادة الجماعية وما زال إلى يومنا هذا. فالصدمة النفسية واقعة في كلا الحالتين سواء زرت العراق أم لم أزره. وأنا لا سبيل لي ولا وسيلة في معالجة نفسي المصدومة سوى الكتابة والتذكّر.. تخيّل مثلاً أنّك تنتمي إلى بلد نُفذت فيه 67 ألف عملية انتحارية خلال 11 عاماً، أي منذ سقوط نظام البعث حتى الآن. وغالباً ما ينتابني هاجس بأنّ عمليات القتل اليومي هذه تحدث في أعماق نفسي، وكأنني عراق مصغّر أو “مشخصن”، فأسير كما لو أنّ الدماء تقطر من جسدي أينما حللت. ومع ذلك فأنا منفيّ حقيقيّ، على الرغم من الشروط المخففة التي نعيش في ظلّها. والمنفى نفسه تحوّل إلى خامة، أو آلة حادة شطرتني نصفين. فأنا لم أكن مرتاحاً ومطمئناً في وطني ولا في غربتي ومنفاي)!

عرض مقالات: