نظرتُ الى غرفتك
الحجر
كانَ مثقوباً من الحزن
وينقشُ بالدمعِ على ضلعيه أسمك
الغرفةُ منذ سهرٍ طويل دونك
وضعتْ رأسَها على كتفي
وتبكي
................
يعتمد الشاعر زهير بردى على لغة نقية جدا في خطابه الموجه الى الفقيدة ، واعني بالنقاوة هنا ، مقدار الصدق الشعوري في الخطاب الذي ترك اثره في طبيعة بناء النص ، ومفرداته وصوره ، وابعده عن الغموض والابهام ، وذلك ناتج من حقيقة يقينه - في وقت واحد - بغيابها وحضورها ، غيابها المادي وحضورها المعنوي ، والثاني هو من يؤسس للنص ، ويستدعي لتجسيد الغياب بعلامات مادية تعامل الشاعر مع الآثار التي تركتها الفقيدة او ماله صلة بها ( الغرفة / الحجر / كعكة / الأدوية / فنجان قهوة / الورود / الضريح ) تعاملا شعريا تأمليا ، يفضي الى صفاء روحي ، يصل حد الترحيب الهادئ بسرى ، على الرغم من يقينه بغيابها ، لكن تلك هي مهمة الشعر أن يحاور الغياب ببلاغته حتى يجعله حضورا نقيا وجديدا ( وأنا اتحدث اليك بلغة الشعر ) ..
ويتجلى اثر الغياب اولا في غرفة الفقيدة التي أنسنها الشاعر وجعلها تشاركه الحزن بحجرها ورأسها ، حتى تماهت معه في كمية الوجع الكبير الذي تركه الرحيل ، ثم في المقطع الثاني يعاود الشاعر الترحيب بسرى تأكيدا منه على معاندة غيابها بهذا الترحيب الشعري ، والاستفسار عن عالمها الجديد – السماء – التي تجلت للشاعر مهتمة بها جماليا كما يليق بحسناء مثلها ، فاستقبلتها بالضوء وكعكة ميلاد نهار جديد ، ويواسي الشاعر عدم التواصل بينه وبينها بحجة انشغالها بترتيب حياتها الجديدة ، ويتقبل ذلك مادامت تتنفس بعيدا عن الأدوية وألم الجراحة ، على الرغم من يقينه ايضا في الوقت نفسه ولو بنحو خفي أن من الصعب ان يستعيد ذلك التواصل الروحي معها ويخفف ألمه بفنجان قهوة مرة ،
مرحباً سرى
كيف كانت السماءُ معك
كما علمتُ من الضوءِ
هي مهتمّةٌ بك كثيرا
كمثلي
فقد وضعتُ دمعاً على
كعكةِ ميلادِ نهارٍ جديد
تقضينه هناك
لستِ معي الآن
أعرفُ أنّك منشغلة
بترتيبِ حياتك الجديدة
وأنت تتنفّسين بعيدا
عن رائحةِ الادوية وألم الجراحة
أنا الآن أجلسُ في مكتبي
أكتبُ قصيدةً جديدة
وأنتظرك لتطبعي
وقد وضعتُ جنوني
في فنجانِ قهوة
من الصعب يا سرى
أن أخفّف ألمي
بفنجانٍ مرٍّ
ولعل اعمق اشكال التواصل بينهما ما كان مرتبطا بالشعر كونها هي من كانت تطبع له قصائده الجديدة ، فتشاركه لذة الابداع ، و شكل الوجود الانساني وهو يتمظهر شعرا ، ومن ثم فان غيابها اربك ذلك الوجود ، وجعله رهين انتظار لانهاية له .وعندما يدرك الشاعر تلك الحقيقة فانه يتفحص الفضاء حوله بنظرة يختلط فيها اليأس مع السعادة ، اليأس من امكانية معاودتها أداء تلك الطقوس عندما يكتب هو ، وتطبع هي ، في تناغم انساني بين اب وابنته ، والسعادة من جهة امكانية التواصل بينهما ثانية لكن شرط ان تكون اللغة الشعرية هي الوسيلة لأنها وحدها من يمكنها ان تدجن لغة الموت التي تواجه الشعر بشراسة الغياب ، فيستقبلها الاخير ، بالحكمة والتأمل والهدوء والحنان الأبوي ، حتى يصنع من تلك المواجهة صورا شعرية جديدة للفقيدة وهي تسكن عالم الغياب .لعل تلك تسليته الوحيدة الحلوة المؤقتة التي تخفف من الوجع الكبير الذي لا ينتهي في أعماقه .
انظر بيأس حولي
سأكونُ سعيداً
حين أكتبُ
وأتحدّثُ إليك
انا بالشعر
وأنت بلغةِ الموت
واعلمي يا سرى
أنا أبٌ
لا يحلو لي من بعدك
سوى أن تمرّي على كلّ يوم
لألتقطَ لكِ صورةً شعريّة
...............
بعدَ اليوم
سأوقظك بقبلة
وأنا أتذوّقُ الماءَ
من ضريحِك الطري
أنظرُ اليك
أمشي وسط ورودٍ تشبهك
وتحفُّ بك
وبيدي أجمل الاشياء
التي كنتِ تحبّينها
ومن أجل استعادتها بالشعر فان قبلته الأبوية للماء الذي يقطر من ضريحها هي شكل من أشكال السحر الشعري الذي يعيد تشكيل حضورها الجديد ويرقبها كوردة، ويستذكرها بأجمل العلامات التي كانت تحبها ، انه يتعامل معها جماليا بما ينسجم وجمالها الروحي والمادي كابنة لأب شاعر.
..............
كنت أمنّي نفسي
أن تنهي موتَك
بيومٍ واحد
وتعودي
لكنّك همستِ
أخافُ لو عدتُ
أنْ أموتَ ثانية
أما الخاتمة فتأتي موجعة جدا ، لأن يقين الشاعر بعودتها يتعرض لصدمة كبيرة ، عندما يكتشف ان غيابها لم يكن مؤقتا ليوم واحد فقط ، وانما كان غيابا ابديا، ولتلافي تلك الحقيقة وتبريرها شعريا استعدادا لتقبل غيابها الطويل فانه يضع على لسانها لاول مرة في القصيدة جملة هامسة تخبره انها تخاف العودة خشية الموت ثانية ..وبمعنى انها تخاف عليه من معاودة صدمة موتها ثانية ومواجهة فيضان جديد من الحزن الذي ، يحاول الشاعر الان حصره وامتصاص زخمه بالشعر لأنه الوسيلة الافضل لديه وهو الشاعر الموجوع والأب أيضا في آن واحد. واذا كان التوصيف الثاني (الأب) غير قادر على مواجهة صدمة غيابها حتى اللحظة والتعود عليه وعلى لغة الموت ، فان التوصيف الأول ( الشاعر ) وحده فقط من يستطيع – في الاقل – التعامل مع تلك الصدمة ومواجهتها بلغة الشعر وهذا ما فعله الشاعر الكبير زهير بردى في هذا النص الذي أجده من أعمق المراثي الشعرية الحديثة التي قرأتها وتماهيت معها حد أن رغبت بمشاركته احزانه بسطور طويلة اكبر من حجم تعليق عابر.