لمكسيم غوركي (التاريخ الحقيقي للانسان يكتبه الفنانون لا المؤرخون..) وشمران الياسري1926ـ 1981 احد اولئك الذين امتلكوا قوة الرصد للحظات واستثمارها..عبر رباعيته التي صدرت عام 1972 باجزائها الاربعة(الزناد) القداحة) و (بلابوش دنيا) و(غنم الشيوخ) و (فلوس حميد).. اذ تبدأ بتاريخ 1923 وتنتهي بقيام ثورة تموز 1958.. وهي تعتمد لغة محكية واداء سردي شعبي متوالف وامثال وحكايات شعبية تدلل على امتلاك كاتبها طاقة في التقاط الواقع وشحنه بالمفارقات وفنون الادب المحركة للذاكرة..

لقد تنفست هذه الرواية وجودها بعد مخاض طويل مع الرقابة التي اجازتها ولم تعضدها.. بل عضدها جمهورها الذي اشتراها قبل صدورها.. كونها تربط بينه وبين الثقافة والسياسة بروح شفيفة تجسد التاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي عبر لغة فنية مبنية على توليفة التعامل مع الجملة وتوظيفها وربطها بالمثل الشعبي الحامل لمدلوله.. النافذ لعقل متلق مهيأ لاستيعابه والوقوف على مأثوراته بتجسيد تاريخ مجتمع ونقل التفاصيل الجغرافية والتاريخية والاجتماعية بدقة..

ـ شمران الياسري اقترن اسمه بابي گاطع انطلاقا من برنامجه الاذاعي وعموده الصحفي (احجيها بصراحه يبو كاطع).. باعتماده الاسلوب الواقعي ومعالجة الحدث برؤى ثاقبة عبر لغة شعبية شفيفة واسلوب ساخر ترك اثره في تاريخ الصحافة ابتداءً من صحيفته الحلمية السرية (صوت الفلاح).. فصوت الاحرار والبلاد والحضارة العلنية..

ـ شمران الياسري يصطاد الفكرة من تناقـضات الـواقـع ويعـــيد بناءها بتلقائية على لسان ابطاله.. كما في الفلاح الهارب من القهر الاجتماعي والبيئي من الجنوب الى العاصمة فيتماهى مع شخصية ابو كاطع وشخصية خلف الدواح ... اذ عن طريقها صار ابو كاطع يحاكي ذاته ويتجاوزها ليناقش الوضع السياسي والاجتماعي وينتقده بسخرية لن تتجاوز حدودها.. عبر عموده (احجيها بصراحه يبو كاطع).. كونه مجسا لواقع الحياة اليومية.. ثرا بالحكايات والقصص والامثال والشعر والمفارقة بسخرية شفيفة بعيدة عن الابتذال مدغدغة روح متلقيها بحكم لغتها الرصينة المحكمة البناء البعيدة عن التقعر والتصنع فضلا عن بساطتها وبنائها التكنيكي.. وهذا يكشف عن خزين فولكلوري تحتفظ به الذاكرة..

ـ شمران الياسري في رباعيته يجسد تاريخ المجتمع العراقي من خلال مفردات الريف الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.. فيرسم خارطة اناس  يحلمون ببيت وارض وآلة حديثة وبذور.. وبذا كان نصه السردي بارومتر الحياة الاجتماعية على حد تعبير الناقد ياسين النصير....اذ منها يستلهم المتلقي الظروف التي مر بها العراق ومنها غادر باسلوب ساخر تعبيري وتركيب ثقافي يجمع بين حسجة الجنوب (التورية) وموالات الفرات وصوت العشائر وغناء البادية ومنابر الحسينيات وثقافة الريف الحكائية ولهجتها الشعبية..

(قرأت لخلف الدواح ما نشر في صحف الامس الاول حول قرار وزارة الاعلام القاضي باعادة مدينة بابل الاثرية.. وكلفة المشروع كما تقول الوزارة 12 مليون دينار تسهم في تغطيته منظمة اليونسكو.. والمبلغ ـ اياه ـ مخصص لصيانة الابنية الاثرية، القائمة حاليا وتخليصها من الاملاح واعادة بناء الزقورة.. واجزاء من  السورين الداخلي والخارجي وعدد من بوابات المدينة.. وقد (تدارسنا الموقف) خلف الدواح وانا ..فاستقر رأيه على تقديم مشروع لوزارة الاعلام يتحمل نتائجة المادية والادبية ويذهب الى ابعد من ذلك فيقول:

(.. وركَبتي تتحمل خل الوزارة تگول: طلع عدنا خبير چبير كلش بالاثار اسمه خلف الدواح.. والاحسن يگولون اسمه (كلف الدّواه) اشوية اليق.. حتى يصير مقبول اقتراحي لو قدموه للاخ يانسكو ـ  الله يجزيه بالخير على هالاريحية ـ يگولون يكَول الخبير الچبير (كلف الدواه) چانت مدينة بابل هالشكل..)

واليكم خلاصة المقترح:

يعاد بناء الزقورة بمبلغ نصف مليون دينار وتصان الابنية القائمة بنصف مليون دينار اما الاحد عشر مليونا الاخرى فتصرف لبناء احد عشر الف بيت للفلاحين يكون كل واحد منها على هيئة (زقورة) تشيد على امتداد الطريق من بابل (متصلة بالزقورة الام) والى بغداد.. ويعتقد خلف الدواح، ان السائح الاجنبي، وهو يشاهد ذلك (يسيح) من شدة الانبهار بهذه الحضارة العظيمة، حين ترافقه الزقورات (من فوگ من المحمودية لمن توصل للزگورة الاصلية). 

ويهمس في اذني، بحذر:

ـ بهالطريقة، هم نحيي (اثارنا) وهم نحيي هدعش الف عايله ونسكنهم بالبيوت اللي نسوي شكلهن مثل الزواجير!

هذا يعني ان الرباعية مهدت لادب ريفي اجتماعي فكانت رائدة في مجالها مقابلة لريادة غائب طعمه فرمان في(رواية المدينة)..

ـ شمران الياسري..ضمير الشارع بكل موجوداته لحيوية موضوعاته وسخونتها الجامعة بين نقيضين (الجد والسخرية)..كونه (يفكر بوضوح فيكتب بوضوح)..على حد تعبير ماركس.. فهو يواشج بين ايقاع الفكرة والاسلوب الواقعي الساخر في معالجة الحدث برؤى ثاقبة ولغة شفيفة ..

لقد تميزت رباعية ابو كاطع الروائية بابعاد فنية متماسكة وهموم ايديولوجية واجتماعية مركزية.. وهي مبنية على مبدأ الصراع المنطلق من الحياة فكان المحرك الذي يشحنها بشحنات جمالية وفكرية.. كونها تنطلق من صميم الواقع الريفي بموجوداته ومكوناته.. بلغة تزاوج بين تراث الفصحى والموروث المحكي ببراعة وتلقائية.. كشف عنها قول غائب طعمه فرمان بعد لقائه الاول مع ابي كاطع عام 1969 في احد مقاهي شارع السعدون..

(بدأ اللقاء وكان احدنا يعرف الآخر منذ عهد نوح.. وهذا التعبير مستلهم من روح (ابو كاطع) أسر لي قائلا: هل تحب القراءة؟ قراءة أي شيء نعم ..القضية كلها يا محفوظ السلامة يعجبني اصير روائي  جا بس انتوا..شوفها واحكم عليها رواية لو خرط..)..ثم يسترسل (فرمان) واصفا عوالم الرواية (اخذ يتنامى في خيالي المبصر عالم متجسد.. رحب عارم للوسط الذي يصوره ومعرفة مستفيضة بخبايا الحياة الريفية وحنايا سكانها الواقعيين الى حد احساس القارئ بانفاسه تدفئ قلبه..)

ـ شمران الياسري..عالم مجسد لانفاس الريف حتى انه صار ظاهرة ثقافية (مسموعة ومقروءة).. كونه اوجد لونا من الوان الكتابة لم تألفه الصحافة العراقية.. انه المقال الصحفي الاعلامي الهادف بلاغيا وعاميا باسلوب سهل مشوق محقق للمتعة والمنفعة ..مع قدرة على تطويع الراي الجمعي بلغة متماسكة البناء.. وهذا ما اكسبه صفة المثقف العضوي المنتمي على حد تعبير غرامشي الايطالي..

عرض مقالات: