عند البحث في مشروع نيتشه الفلسفي لابد من كشف مرجعياته المتسلسلة من الفكر السفسطائي بوصفه الومضات الاولى التي استقى منها كل المشاكسين والمجددين ودعاة التغيير ومنهم نيتشه، ومن ثم كان تأثره بـ (آرثر شوبنهاور)، فما علاقة عدمية (نيتشه) بالرؤيتين المتباعدين في الزمن.؟  ان الاجابة عن هذا التساؤل فيه ما يستدعي بعض الحوارات الفلسفية بوصفها محفزاً للعدمية كما قدمها متناثرة في كتبه، فعند البحث في السفسطائيين نجد ان تعالق  (نيتشة) معهم ينطلق من تقويضهم المراكز وهي متعددة كما في المركز اللغوي او الشكلي والمعني او المفهوم، ففي الاول نجد ان السفسطائيون يحاولون خلخلة الثابت والقانون والمطلق، وفي هذه الخلخلة ما يقدم لأرضية الاختيار من قبل المتلقين او عموم الناس، والخلخلة تتوجه نحو الانتماء الى المطلق الذي صنعته ادعاءات الكنائس ويقصد المسيح المشوه الذي شوهته سلطة الكنيسة لمأربها، وبذلك فان تقويض الثابت عند نيتشه يعني في المقابل اشاعة وتشجيع لحركة الموقف الذي يعد مرجعا يحقق تساؤلاً مستفزاً ويؤدي الى تفكيك المنظومة العقائدية الصارمة في الذات الفردية والاجتماعية، والامر نجده بمرجعياته المتأثرة بشوبنهاور في بحوثه في الارادة عندما نعمل على تقويض القوة التي تحيلنا الى عبيد لقيم واصول وقرارات لا قيمة لها سوى ان تكون مهيمنة علينا، ان هذه العبثية المتشائمة من القيم تعد مركزا تناغمت معه ازدرائية (نيتشه). ان موقف شوبنهاور الانفعالي من (هيغل) يبين رفضه للمتجدد لقوانين هيغل ذات البعد الميتافيزيقي عندما قدم الجدل كقانون وجود يحيلنا في النهاية الى الروح المطلق، ولهذا رفض شوبنهاور هذه المعادلة القريبة الى الرياضيات واشاعة ارادة القوة عندما تكتشف حسب رأيه زيف الاصول والحدود والقوانين التي اشاعها (هيغل) وكان الانعكاس واضحاً عند فريدريك (نيتشه) في رفضه الجدل والجدلية.

ان رفض (شوبنهاور)(ونيتشه) جدلية هيغل تحيل الى رفضهما المقدس من حيث رفض العمليات الرياضية المنحى ذي البعد المنطقي التي تستقرئ وتستنج وتعلن ان النظام والتنظيم والتطور والتحول في مؤسسة البناء المعرفي ماهي الا كشف عن تهافت وسقوط لكل المقدسات التي تكبل إرادة الانسان في تأطير غرائزه وحاجاته، وهذا يوضح ان الفكر العدمي قد ابتدأت شذراته الاولى من خلخلة الثابت عند السفسطائيين وتنامت بتشاؤمية مقوضة بحدود وقوانين عند آرثر شوبنهاور وتعاظمت وتأسست فكرتها المؤثرة والفاعلة في عبثية فريدريك نيتشه ويمكن تأشير ذلك على النحو الاتي.

اولا: ان العدمية النيتشوية تنطلق من تقويض الواقع لان في الواقع وما تبعه من الواقعية افكار لا تنم الا عن احلام يقظة بل ان تجليات الواقع عند الانسان عندما تكون حلماً.

 وعليه فان الواقع المقوض او المرفوض يحيلنا الى اللا واقع واللا معقول واللا مثبت واللا مقنن من حيث رفض القوانين ومرجعياتها ووهم استمراريتها، وهكذا نجد ان نيتشه يعتمد (حكمة سبينوزا التي تقول ان افضل الاشياء التي لا تمتلكها هي التي لم تولد بعد)  انها لاعقلانية يحفزها الوهم وكما يقول نيتشه في كتابه مولد التراجيديا (ان الوهم الجميل في عالم الحلم الذي متى ما ولد يجعل من الانسان او الفنان كاملا).

وبذلك نجده يتوافق مع شوبنهاور في ازدراء الواقع وعالم المعقول، لان الإرادة هي المحرك الفاعل للوعي وهي الموجه له. وكما يقول شوبنهاور أن العالم فكرة، لا نصل اليها ألا ببحث شاق وبتجربة أشد، وهو يفصل ما هو مؤتلف وموحد مع ما هو مختلف، هذه الحقيقة المؤشرة ظلت مخفية... (ان بوسع الانسان ان يقول، بل يجب ان يقول، العالم ارادتي).

ثانياً: -تقويض الميثولوجيا ولاسيما الدينية منها، سبق نيتشه في هذا الامر فلاسفة كثر ويمكن ان نعد الفيلسوف المادي (فيورباخ) (من اهم الفلاسفة الذين جاهروا بتقويض الميثولوجيا والدين وأثر ذلك في ماركس عندما "انتقد الفلسفة التأملية والمساواة بين الميتافيزيقا (علم ما وراء الطبيعة) والأيديولوجية (الفكر). وباعتماده على هذه الطريقة حاول ماركس أن يفصل النتائج الرئيسة عن الانحياز الأيديولوجي. وهذا ما وضعه بمعزل عن العديد من الفلاسفة المعاصرين".

ويعد ماركس في موقفه من الميثولوجيا والدين وما قدمه في ماديتهِ الجدلية المؤثر المهم في العصر الحديث في موضوعة تقويض الميثولوجيا واحراج الفكر اللاهوتي بأنواعهِ، لكن (فريدريك نيتشه) في مجموع كتبه التي قدمها وترجمت معظمها الى اللغة العربية (يقدم خطاباً يختلف عن الخطاب الماركسي بالكامل، فمنطق الرفض الماركسي يختلف عن منطق الرفض النيتشوي.

في الفكر الماركسي يعد الدين والميثولوجيا واشاعة سلوكيات تعبر عنهما ضاغطًا يقدمه وينتجه القلة المهيمنة من المجتمع والمتصفين بصفات الرفاه والاستحواذ على رأس المال والسلطة. اذ يعتقد ماركس وانجلز ان الدين والميثولوجيا صنعت وانتجت بواسطة هؤلاء.

بينما يرى فريدريك نيتشه ان الميثولوجيا والدين نتجت بفعل تخيل وخيال بشري حالم ذكي يحاول ان يجعل من العوام الاخرين قطيعً لا يفهم سوى اعادة المرتلات والترديد بها، فهي أكذوبة من أكذوبات الواقعية، فنجده في كتابه الشهير (هكذا تكلم زرادشت)، وعلى لسان (زارا) عندما يخاطب من يدعون الحكمة من الكهنة والميثولوجيين اذ يقول: "ليست ارادة الحق في عرفكم ايها الحكماء الا تلك القوى التي تحفزكم وتضطرب فيكم، تلك هي ارادتكم اسميها انا (ارادة تصور الوجود) فأنكم تطمحون الى جعل كل موجود خاضعاً لتصوركم". يبدو ان نيتشه قد اتهم من اسماهم الحكماء انهم طموحون لجعل كل موجود قطيعاً يردد بدون التفكير تصوراتهم التي يرفضها الفيلسوف.

يرى ماركس ان الميثولوجيا والدين اداة تخلف المجتمع واداة قبوله على هيمنة رأس المال المستغل، فنظرة ماركس للميثولوجيا والاديان نظرة تجعلها ادوات رأس مالية بحتة في عبودية الانسان ولاسيما المسحوق.

"قد أنكر ماركس وجود روح لا مادية، ووجود جواهر روحية من أي نوع، وبالتالي فقد انكر الله، عدّ اللاهوت والميتافيزيقيا انسجه من الأكاذيب تحاول اغتصاب العلوم الطبيعية التي تستطيع وحدها ان تقدم حدودا لمسائل الواقع كافة ومن بينها القوانين التي تتحكم بين الافراد والمجتمعات".

بينما نجد نيتشه يختلف في نظرتهِ للميثولوجيا والدين فيعدها ظاهرة قد اسست الوهم المتسيد في عقول الناس وابعدت من يعتمدهما في تأسيس وتقديم الوعي الحق والدقيق، اذ يقول في كتابه (عدو المسيح) ان كل هذه القيم السامية للبشرية تفتقر الى ارادة الحياة وأنها مجرد قيم ساقطة بل عدمية لا تجد قدرة لها سوى مع وهم المقدسات.

ان الدعوة الماركسية في رفض وتقويض الميثولوجيا والدين اساسها حركة رأس المال والهيمنة على اقتصاد السوق، فهو يرى ان الميثولوجيا والدين استثمرتا على نحوٍ بشع ومزرٍ في زيادة رأس مال المسُتغل وافقار المسَتغل من حيث اعطاء المشروعية الاخلاقية للمستغلين البرجوازيين واصحاب رؤوس الاموال الكبيرة في نمو مدخراتهم وزيادة هيمنتهم على الطبقات الفقيرة.

بينما نجد ان نيتشه يعد الميثولوجيا والدين اداة اشاعة الاوهام الرافضة لواقعة وحقيقة العدم والعدمية التي تجتاح حياتنا ومن ثم تعمل على اشاعة الضد من ارادة القوة عند الانسان باعتماده ارادة الرب او الاله بوصفه المحرك الاساس في حياتهِ. اذ يقول في كتابه (عدو المسيح): ان اسوأ عمليات التفكير والتزامات الوعي عندما نجعل الفكر مؤطرًا بأوهام صنعتها اوهام سبقتها، انه الطريق الى الانحطاط، بل الى البلاهة، فها هو (كانت) تحول الى ابله بينما كان معاصراً لـ (غوته).

ان فلسفة الانغلاق والانفتاح تمثل عملية التزام يقابلها خرق لهذا الالتزام ومن ثم فإن الالتزام يعتمد منظومة لها حججها ومنطلقاتها تختبر في تفاعلها الوجودي الحياتي، وعندما تنتقد وتخترق هذه الالتزامات والتطبيقات تتمظهر لنا عمليات التقويض والخرق، فالانغلاق هو المحافظة على كل ما التزمناه ازاء وجودنا الميثولوجي والاخلاقي وسلوكياتهما المطلوبة، بينما الانفتاح هو خرق وتقويض لهذه الالتزامات).

عرض مقالات: