كل مثقف ماركسي، يملك آلية للحوار منطلقة من مبادئه، القائمة على أرضية متينة، وهي الجدالات الفلسفية والاجتماعية والثقافية القديمة وتطوراتها في العصور اللاحقة. فالجدل الماركسي ولد بولادة الأسئلة عن الوجود، والإنسان، والحياة، والطبيعة، وهذه الأسئلة هي التي خلقت الأرضية لكل الفلسفات اللاحقة بما فيها الفلسفات الدينية والعرقية والاثنية والقومية واللغوية. لن تقف عند حدود معارفها الأولى، لأنها من السعة التي استغرقت البشرية قرونًا عديدة لصياغتها عمليًا في تجاربها الناجحة والفاشلة، والسبب ليس في الفشل أو النجاح في البناء الفكري للأفكار الماركسية، بل في طرائق طرحها وتطبيقها، ونجد أن المحاورة مع الخصم من المداخل الحيوية والنقدية، التي تغني الفكر الممارساتي، عندما يكون خصمك ذكيا وقادرًا على طرح أفكاره بالقدرة التي تتصورها، عندئذ سيكون الحوار مجديًا. لقد تطورت الجدالات المعرفية من الشكل البدائي المتمثل بعرض البضاعة الجيدة، عن طريق الكلام، بمقابل البضاعة الرديئة، إلى التعبير عن البضاعة الجديدة والبضاعة الرديئة عبر المواقف والممارسات العملية وليست الكلامية فقط. هذا الخزين المعرفي هو ملك البشرية كلها، المحاور الماركسي يعتبر أحد العقول التي تنظم هذا الخزين المعرفي وفق الخبرة والممارسة. وبالطبع سيكون المحاور المقابل ممتلكًا هو الآخر الأرضية الحوارية القائمة على مبادئه، وانتمائه الطبقي والفلسفي. وبذلك يكون له فهمه الخاص بتاريخ صراع الأفكار. ولهذا لا تجري المحاورة بين شخصين دون أن يعرفا هوية أحدهما الآخر. ثمة نقاط أولية، ومجزأة لإدارة الحوار، وللكيفية التي يجب على المحاور الماركسي اتباعها.

 النقطة الأولى، هي أن يكون المحاور الماركسي متفهمًا للموضوع الذي سيدور الحوار حوله، فهم الموضوع نصف الإجابة، وأن يكون على معرفة جيدة بثقافة خصمه في المحاورة، أن المعرفة بتفكير الآخر والموضوع، ستسهل للمحاور الماركسي الدخول إلى آلية تفكير الخصم بيسر، وهذا يعني لابد من معلومات أولية يتعرف عليها المحاور الماركسي عن خصمة، أي لا يمكن إجراء أية محاورة مع الآخر دون معرفة طريقة تفكير الآخر، فليس كل من انتمى إلى فكرما سيكون واضحًا.

النقطة الثانية، على المحاور الماركسي أن يشعر خصمه (ومن داخل ما يطرحه) أن تفكيره تفكيرًا ذاتيًا، وليس منطلقًا عن فكر موضوعي أو تجربة اجتماعية تاريخية، وهذا يعني أن في كل فكر ثمة درجات من الوعي والفهم للقضايا مدار الحوار، وعلى المحاور الماركسي أن يكون مستوعبًا لهذه الأرضية المتشعبة وغير مستوية المسالك الخاصة بالمحاور الآخر، أي عليه أن يجعل أفكار خصمه دائمًا تحت الأسئلة.

النقطة الثالثة دع خصمك يبدأ أولًا، ولا تكن البادئ، لتتعرف على ما يفكر به، لأن البداية الاستهلالية للحوار سيتشكل في ضوئها متن الحوار ونصه، وعندما تكون البداية واضحة، سيطورها المحاور الماركسي، وإذا لم تكن واضحة سيبدأ المحاور الماركسي بتصويبها، عندئذ سيكون الحوار منطلقًا من التصويب وليس من المبتدأ. اي ثمة استهلال معرفي يقوم على استهلال خاطئ، وسيكون من حق المحاور الماركسي، أن يسترسل في حواره كاشفًا عن التناقض الذي ابتدأ به المحاور الآخر.

النقطة الربعة، أن لا يكون رأي المحاور الماركسي شخصيًا، أو منطلقا من مواقف شخصية مع الخصم، وإنمَّا يقف وراء مواقفه الوعي الطبقي والفلسفي والفكري، ومدى جدية الأفكار وتجاربها، عندئذ سيختفي المحاور الماركسي وراء الفهم الدقيق للحقائق الموضوعية، ولا يقدم وجهات نظر شخصية، إلا في حدود ضيقة أشبه ما تكون بالتفسيرات الجزئية التي تلحم الأفكار الأساسية بعضها مع البعض الآخر.

النقطة الخامسة، كل إجابة من الخصم تحتوي على سؤال ما، أما بالاتجاه المعاكس لما يطرحه المحاور الماركسي، أو بالاتجاه الذي يؤمن به، لأنه ينطلق من تصور فكري وفلسفي خاص، على المحاور الماركسي أن يكتشف الذاتية في تفكير خصمه، لأن الوقوف عند العموميات لا يعني موقفًا نقديًا.  وعلى المحاور الماركسي أن يربط بين الجزئيات وصولًا الى الكليات.

النقطة السادسة، أن لا يغيب عن المحاور الماركسي الربط بين الأفكار والواقع المحلي ثم العالمي، أو العكس وقد يتطلب الأمر أمثلة من التاريخ القريب، وهذا الميدان هو المجال الذي تتضح فيه مواقف المتحاورين، أي مدى فهمهما المشكلات المحلية في ضوء الأيديولوجيات التي يؤمنان بها.

النقطة السابعة، على المحاور الماركسي أن يكون جزل الأسلوب، مركزًا أفكاره في نقاط محددة، لا يسهب كثيرًا، ولا ينهي فكرته دون وضوح، ويقترن حديثه بالشواهد.

 النقطة الثامنة، دع عينيك أيها المحاور الماركسي في عيني خصمك، لأنهما الجهاز الذي يبصر ما يخفيه الآخر، والعينان من الأدلة الكبيرة على الثبات والوضوح والصدق، وتصويبهما الدائم الى الخصم، تضعه تحت رؤيتك لترى ما لم يره هو في نفسه.

النقطة التاسعة: ليست كل الأفكار التي يدلي الخصم بها مرفوضة، لابد للمحاور الماركسي أن يلتقط بعض الإيجابيات فيها، ويعمقها عند خصمه، وبهذه الطريقة لن يغلق باب المحاورة مستقبلًا فيما إذا رغب الطرفان. وثمة أفكار تبقى معلقة دون حسم، وهذه نقطة مهمة، لأن التقادم أحيانًا يضر بالتأسيسات الأولية التي توصل إليها المتحاوران.

هذه خطوط مختزلة لسلسلة من المفاهيم التي على المحاور الماركسي أن يتقنها، لأنه الجدير بطرح ما يؤمن به نقديًا عبر الحوار، وسنجد أن الطريقة في الحوار نص ثقافي، سيكون له قارئ يعيد تشكيله من جديد على وفق ما يؤمن به، أو ما يستشفه من تناقضات، ولذلك على المحاور الماركسي أن يكون واضحًا للقارئ الجديد، الذي نسميه في النقد الثقافي، مؤلف النص. مهمة المحاور الماركسي أن يكون قارئا ايضًا لأفكاره القديمة، وأن يبني تصوراته الجديدة على ما طرأ على الأفكار القديمة من تطور، وهذه الرؤية النقدية المستمرة، واحدة من أسلحة المحاور الماركسي.

عرض مقالات: