عادت مونيكا بيلوشي متعبة من أيام (كان السينمائية) الصاخبة وكنت أنا من بين مئات المعجبين الذين تجشموا عناء السفر الى مدينة كان الفرنسية وتحملوا الإقامة الغالية حتى في فندق ثلاثة نجوم بسبب أيام المهرجان، فقط لأحصل على توقيعها على صورة لها تشرب فيها قهوتها وتذرف دمعتها على جنود قتلهم أسامة بن لادن بسيارة حوضية مفخخة في تلك المدينة الجنوبية التي يقسمها الفرات الى نصفين والتي لا تبعد عن منزل النبي السومري ابراهام سوى عشرة أميال.

طوال أيام المهرجان كنت اجيء مبكرا الى القاعة الفندق الذي كانوا يقيمون فيه الحفل البروتوكولي الأول والعروض السينمائية المرشحة ، واعاني الزحمة مع آلاف البشر وهم ينتظرون ممثلهم المفضل لا يحصلون على تذكار عزيز واغلبه توقيع الممثل على أوتوغراف او استغفار حراسه الشخصيين والتقاط صورة سيلفي معه ، إلا انني بسبب خجلي حين يحتك جسدي الخمسيني بنهود شابات صغيرات يصغرن ويتدافعن بجنون من اجل جون ترافولتا وريتشارد كير وبراد بيت وليوناردو دي كابريو وغيرهم ، اشعر بالخجل واخاف على شيبتي ان تشعر بشيء من اللذة الحسية وهو ما كان كافافيس يعيش في نشوته ليصنع قصيدته.

الجمهور الواقف هنا مثل حرب طروادة، واحد من هيلانه وباريس خاطفها والآخر مع زوجها ميلانوس. وكان اغلب الرجال مع هيلانه والاناث مع ميلانوس أي ان النساء يصرخن بجنون ويندفعن صوب الممثل الفلاني لحظة وصوله، والرجال تهتز كل اعضائهم الذكرية ونظرات رموشهم السحرية حين تنزل بيلوشي او نيكول كيدمان من السيارة على الرغم من ان اغلب تلك الممثلات يصاحبهن أما زوج او عشيق.

فقط بيلوشي نزلت مع الممثل بروس ويلس وهو صديقها ، فيما نزلت ميريل ستريب وحدها ، وهي فقط من التقت عيناها بعيني ولو كانت تعرف اني قادم اليها من مدينة النبي إبراهيم لنادت علي حتما والتقطت معي صورة ( سيلفي ) لكن كنت آت ومصلوب تحت حرارة شمس ربيع فرنسي دافئ فقط من اجل بيلوشي ، لشعوري ان توقيعا لها او صورة مشتركة ، تكون دافعا لي لإكمال هاجس البحث عن أور المفقودة التي لا يظهر منها على الأرض سوى بيتين خربين هما قصر الملك الموسيقي شولكي ودار العدالة ، وزقورتها التي وجودها عبارة عن تل هائل من التراب وغلفوها بالحجر .

وبقية الأثر ليس سوى مقابر نهبت موجوداتها على يد البعثة الاثرية التي قام بها ليوناردو وولي وماكس ملوان والقادمون من بعدهما.

لأكثر من أسبوع لم تحض اجفاني بملامسة أجفان بيلوشي لقد كانت تنزل من السيارة الروز رايس السوداء بسرعة عجيبة وتختفي بين الزحام وكاميرا الصحفيين وصراخ عشاقها وهم يهتفون: ايتها الالهة الايطالية نريد نسمة هواء من اجفانك الساحرة فقد اختنقنا من الزحام وساعاته الطويلة من اجلك انت.

تلك المناجاة ذكرتني بتلك المناجاة اليائسة لأولئك المساكين الذين كانوا يصاحبون الملك او الثري السومري من أبناء موته في الموكب الجنائزي حيث على الميت ان يصطحب معه خدمه ومحبيه ليعيشوا سرمدية دلمون التي ينتظرونها في القبو، وحيث يشح الماء والغذاء ويقل الهواء في القبو ويصلوا الى مرحلة المناجاة، يكتشفون الخديعة ويطلبون من الالهة نسمة هواء ليعيشوا.

وهذا يبدو واضحا في الوصف المخيف الذي تخيله الآثاري ماكس مالوان زوج الروائية آجاثا كريستي وهو ينزل في القبو رقم 800 في مقبرة أور المقدسة، فيرتعب من فوضى الموت الجماعي داخل هذا القبر، فلم تكن هناك دلمون وحدائق جنائن كانوا موعودين بها. ويمثل هذا الوصف المهيب الذي ذكره مالوان في مذكراته روعة ما وصف به هذا الكشف الأثري عندما ذكر في المذكرات النص التالي :( كان مشهد المقبرة الملكية رائعاً عندما كنـّا نعمل جميعاً، وأذكر أن أحد القبور الملكية، الذي ضم ما لا يقل عن 74 شخصاً دفنوا أحياء في قاع المهوى الملكي العميق، بدأ عندما كشفنا سجادة ذهبية اللون مزينة بأغطية الرأس لسيدات البلاط، متخذة شكل أوراق الزان وعليها آلات القيثار والقيثارات). Harps and lyres التي عزفت الترنيمة الجنائزية الى النهاية.

وهكذا تكون أور المدينة التي فقدت بسببها روما أكثر من عشرين جنديا بعض هاجس الخيال الميتافيزيقي المفترض في ذاكرة الحضارة، وربما بسبب ضبابية هذا الافتراض ابتعدت خرائط ماركو بولو عن هذه الجهة بالرغم من أن اول عبارات الحب نطقتها إناث تلك المدينة، وأول إغراء لغرام همسته عشتار في مسامع من تهواه وربما جلجامش البطل الأسطوري كان من بينهم.

فضل الرحالة البندقي أن يذهب الى بلاط رجل قاس ولكن اثاث المكان الذي ينتصب في عرشه يمتلك اغرب المنحوتات وتكاد تماثيل التنين الذهب ان تنفث نارا من الخمر والأرز والخراف المشوية في ليالي عبث اسطورية عاشها قبلاي خان وهو ينصت الى نبوءات المنجمين وهو في حالة سكر وعربدة.

الغريب أن الروائي إيتاليو كالفينو تحدث عن قبلاي وماركو ولكنه وضعهما في خيال مدن أخرى، مدن لليوتوبيا، وربما يعرف او لا يعرف أن يوتوبيا المكان السومري هي البدء الأول لذاكرة العمران وتخيل هندسة المدن، لكن شيئا لم يبق بسبب قساوة المحتلين وتأثير النار والمنجنيق والمعاول فتم تهديم القصور والجنائن الزقورات والمعابد ولم يعثروا من سحر تلك اليوتوبيا سوى على أقبية الموت الكنوز المخبأة في قبور ملوك سلالة اور الثالثة.

أنشأ لنا كالفينو مدن خيال لن يستطيع أي معماري ان يقترب اليها، عدا المهندسة المعمارية العراقية الأصل زها حديد، فمن يقرأ كتاب كالفينو "مدن لا مرئية" سيكتشف الكثير من المشترك الغريب بين ما يتخيله كالفينو وما تبنيه وترسمه زها حديد، ولان الكتاب مكتوب في زمن كانت فيه زها مهندسة مبتدئة فهذا يعني افتراضا أن زها حديد قرأت الكتاب وتأثرت به.

والغريب أن المصمم الألماني الشهير كارل لاجر فيلد صمم فستانا ابيض في الشهر ذاته لزها وبيلوشي.

زها حضرت فيه مع كارل لاجر عرضا لأزياء شانيل في باريس ومونيكا بيلوشي حضرت قداسا في قرية في نابولي على أرواح ضحايا انفجار الناصرية من الجنود الايطاليين.

بين عالمين، مدن ايتالو كالفينو وابنية زها حديد. تتجول بيلوشي في أروقة الحنين الى اساطير ماركو بولو، الى تغريدة تهديها الى أولئك الجنود السكارى من نبيذ بساتين كروم الجنوب الإيطالي والذي التحقوا قسرا مع المواكب الجنائزية التي كانت تزفها اور القديمة الى اقبيتها المظلمة.

عرض مقالات: