بلغ النضج الفني في المجموعة الشعرية (تيمَّمي برمادي)* للشاعر يحيى السّماوي، مداه الأقصى، حيث تُعّدْ هذه المجموعة هي الخامسة والعشرين من إصداراته الشعرية، خلال مسيرته في بناء وتكوين وتشكيل النص الشعري، فقد تضمنت تلك النصوص رؤى وصورا وإيحاءات وإشارات ورموز ودلالات تدخل في بنية النص، لتحيله الى حالة من التدفق الواعي بانسيابية وإيقاع وموسيقى تهز وجدان المتلقي وتسحبه الى أتونها من دون أن يعكر صفو هذه الرحلة أي عائق أو تعثر أو هفوة أو وقفة تعيق هذا التدفق، وسوف نكتشف أن بناء النص لدى الشاعر تأثر بشكل لافت للنظر، بحياة الشاعر وتجاربه وفكره ورؤاه وثقافته وتجربته الطويلة، وهو يشبه - أي النص الشعري - بالنسيج المتداخل من ألوان عديدة تشكل هذه التراكيب التي تعبر عن صفاته وسلوكه وطبيعته وتأملاته، منها: الوطن، الغربة، عشق المرأة حد الوله، الشعور بالحرمان الكبير الذي يصل الى أنه لا يرتوي بالماء لإطفاء ظمئه، ولكن برشفة من شفتيها، وهي عنصر التفاعل الذي يشده نحو حب الحياة، ونجد أيضاً كبر السن وهناك مواطن كثيرة من النصوص تشير الى ما يحدث للإنسان عندما يتجاوز الستين من عمره، وما يحصل له من متغيرات تجعله يقترب الى النهايات وهي معروفة، الموت، القبر، والتي أشار اليها الشاعر في بعض من نصوصه، كما نجد الإشارة الى الطفولة على الرغم من الشيخوخة، وفي حالة قد تكون متفردة يوظف الشاعر النصوص القرآنية وهي لا تشبه التناص، بل أنها تدخل ضمن النص لتتوحد مع المفردة والثيمة ووحدة الموضوع لنقلها من حالة الاستماع إليها الى واقع عملي تطبيقي، كما سوف يمر ذكره في تحليلنا هذا، ونجد السّماوة مسقط رأس الشاعر حاضرة في تلك النصوص، واعتمدت بنية العنونة التي وسمت بها المجموعة (تيمَّمي برمادي) الرؤية الشاملة لتلك النصوص، كونها لم تكن مختارة لواحدة من النصوص، بل أنها دعوة لسيدة القلب والحياة أن تتيمم بهذا الرماد، الذي يعني الكثير، هو الانكسارات النفسية العميقة، هو الإحباطات الكبيرة التي لحقت به، هو رحلة الحرمان والغربة، هو النهايات، وهو إطلالة هذا الركام الكبير من العمر، وهو أيضاً تجربته الشعرية الكبيرة، أما عناوين النصوص، فقد اختيرت أغلبها من متن النص، من الوسط، أو البداية، أو النهاية، وهي في أحيان كثيرة الرؤية الشمولية للنص، كما إننا سوف نجد الومضة الشعرية التي تنتمي الى القصيدة العمودية وليست الى قصيدة النثر، كما أن الشاعر يستحضر الحضارة السومرية لتكون واحدة من الركائز المهمة التي تشكل بناء النص الشعري، و نكتشف ذلك من أول قصيدة في هذه المجموعة والتي خلت من الإهداءات والتقديم والمقدمة التي وجدها الشاعر زوائد لا تخدم النص الشعري، ولا تساهم في عملية التعاشق المطلوب بين النص والمتلقي، ليعطيه فرصته الطيبة في السياحة داخل عالم الشعر من دون دخيل، وتلك القصيدة هي (ميلاد):

تغدو الملاكُ السومريَّةُ شهرزادٌ ، تقصُّ بالقُبُلاتِ ليْ

قصصاً ، عن الضِلَّيلِ صارَ مؤذِّناً ، ومُبشَّراً بالعشبِ باديةَ السماوةِ

وفي قصيدة (وادي زهور اللوز) نجد هذا النسيج حاضراً يمثل التكوين والتشكيل لهذا النص، الطفولة، الكهولة، لغة النصوص القرآنية، بإشاراتها السيمائية، والعشق الذي يجعل الحياة بستاناً:

عَجَباً عليّ ، رجعتُ في "الستين" ، طفلاً ، أصحو ، لأقطف من حقول الصدر ، تفّاحا

وفي قصيدة (استجداء) نكون فيما ذهبنا إليه في بحثنا النقدي هذا، حول مساهمة النص القرآني في تشكيل النص الشعري، وتحويله من آية مسموعة الى واقع تطبيقي يدخل في متن النص:

ورغيفاً من عناقِ ، دافئِ الجمرِ، بتوليِّ التنانيرِ ، الزمهريرِ

وفي الومضة الشعرية التي نكون فيها مع الأعمى الذي لا يجد في حياته جدوى، وهي دلالة رمزية لواقع الحياة التي لا نجد فيها ما يمكن ان يثير معالم الفرح، إذ نجدها صحراء قاحلة لا جدوى منها:

قالَ ليّ الأعمى، أنا ، أرضٌ يبابٌ

وفي قصيدة (ليس يعنيني الذي قيل) نكون مع حالة النهايات التي تحدثنا عنها، وكيف تكون مشاعر الكهولة وتأثير سني العمر، التي تتمثل بعلاقة هي أشبه بنفاذ صبر من كل شيء، فهو يريد أن يغلق الابواب والشبابيك، ولكن يبقي قلبه ينبض حباً ليس بعنفوان الشباب:

أغلقي بابكِ ، والشباكَ والتنُّور والمِكحَلةَ

وفي قصيدة (يا جبل العمر) نكون مع تلك المجسات التفاعلية التي تثير القلق والخوف من تداعي العمر، وبلوغ قمته كما يصفه النص، الا أنه واقصد ذلك الرجل الكهل الذي رسم ملامحه الشاعر، حين يبلغ قمة العمر، يريد أن يبقى مع الربيع، مع الزهور، مع الرياحين، مع العشق الأخضر، ويحافظ على محبوبته:

يا جَبَل العمرِ، ألا تعرفُ من وسيلة، تمنعُ خطوي من وصول القمة؟، أريد أن أبقى مدى الدهرِ على السفح مع الأنهارِ، والأشجارِ والأطيارِ والأوتارِ

(تيمَّمي برمادي)، هي خروج من قيود السياقات الفنية لصناعة القصيدة الشعرية وما تفرضه من سطوة تعيق حرية الانطلاق والتدفق، والتي امتلك ناصيتها الشاعر وسبر أغوارها، الى حيث المعالجات الفنية الجديدة التي تضمنت هذا النسيج الرائع من المحاور والافكار والمؤثرات الذهنية والثقافية وتجارب الحياة، وتجربة رحلته الطويلة مع الشعر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من إصدارات تموز ديموزي - طباعة - نشر - توزيع- دمشق لعام 2018

عرض مقالات: