البصرة بكل مخيض أوجاعها وسحرها الغامض ونبوءاتها ونزيف أحلامها وحرقتها الأبديّة، تتوكأ اليوم على جراحها وتعض على آلامها لتُنبئنا بأنّها لم تزل على قيد الحياة وعلى قيد العشق والمحبّة، وما زال دراويش الحكاية يجوبون طرقاتها ليلا حاملين فوانيسهم الخضر عاليا لينيروا الدروب لتلك الأرواح الطيّبة الخافقة وسط جوانح المدينة، مثل عيون سحرية تلتقط بقايا التاريخ وتنثر الحكايات الآسرة، حتّى يخالها الرائي من بعيد، من عمق الخليج، نجوما خضرا سقطت ذات ليلة مقمرة في أزقّة المدينة وأبلّتها ومعقلها، تلك النجوم التي تحولت اليوم إلى شظايا أحلام مبعثرة مغمسة بالدم من فرط العنف، فخرج الصبية لالتقاطها وجمعها في أطراف دشاديشهم، قبل أن يخرج الجنود الجدد من قشلتهم متحاملين على خوفهم وجبنهم وخستهم.
وفي الضحى، إذا كان الجو صحوا ودخان القنابل المسيلة للدموع قد تبدد، يستطيع الرائي مشاهدة المئات من هؤلاء الصبية وهم يجمعون بقايا النجوم الخضر وفتات الأحلام في الأحواز المتاخمة والبساتين السود من فرط الظلال، حيث ستينع آمالا خضرا وستفرش حصران الكفاف تحت ضفائر النخيل المعقود فوق الرؤوس، وحيث سيغني سحرة المدينة وصبيتها وعاشقوها ومأسوروها وعبدتها ومجانينها ودراويشها من جديد على أنغام الخشّابة “بَسّ يا بحر” و”جاءني المحبوب في ليل الغسق” و”هلا باللي لفاني يا هلا به”، طالما ظلت يوتوبيا البصرة عالقة في أذهانهم وقائمة في عقولهم ومعلقة وسط أرواحهم مثل أيقونة خضراء تدرأ عن مدينتهم الشّر.
كل بحّار يطأ أديمها وينهل من مائها ويأكل من تمرها لا بد أن يترك فيها جزءا منه، وكل مغامر يصلها على ظهور السفن الخشبية ويقضي الليل في حاناتها لابد سيترك جزءا من أحلامه فيها، وكل بهلول أو متصوف أو مجنون أو حالم أو مأسور أو مأخوذ، حتى أصبحت البصرة محطّة لبقايا الأحلام والمغامرات وقصص الحب والتعبد والتسامي والرفعة والتحضر والسحر، تلك البقايا التي انصهرت كلّها عبر التاريخ لتكوّن لنا ما أسميته الحالة البصرية، أو مكنون الطيبة والتخيّل والقدرة على الخلق واختلاط الشعر بالتجارة بالعشق بالتأمل بالكدّ اليوميّ، منذ كان مربدها هايد بارك تاريخيا أرسى قيم الجدل الفكري وحرية المعرفة والرأي والتفكير والطروحات المتمردة والبوح بالأهواء وما يجول في قريحة الشعراء من صور بكر متمردة غير خاضعة للتدجين الحضري، ومحطة لتنقيح اللغة الجارية على ألسنة الأعراب القادمين من عمق الصحراء إلى أفياء المربد حيث تختلط القيم والمنافع والعادات والتقاليد.
لكن على الرغم من هذا كلّه، لم يكن الماضي ولا الحاضر خفيفي الوطأة عليها وعلى أهلها ومثقفيها، بعد أن تضافرت عليها الحروب وجرت أنهار الدّم في سواقيها وعروقها الجافلة، وبما أنّها بوابة العراق وكوّة تطلعاته نحو البحر البعيد وعتبته النديَّة، فقد وطأها بخيله كل طامح وطالب سلطة ومطالب بثأر وغاز زنيم ومكّار خبيث ومراب ساع إلى صندوق الأسرار وخزائن المعرفة في ما بعدها من بطاح الكوفة وبغداد.

عرض مقالات: