ربما من حسن الحظ واغتنام الفرصة للعلاقة الاجتماعية التي تجمعنا مع المطرب سلمان المنكوب ان يكون ابنه الشاعر والعازف عباس المنكوب امتدادا لتلك الصداقة، وعلى الرغم من كثرة العروض المقدمة إليه كمحطة تلفزيون العراق والسومرية، بالإضافة إلى بعض الصحف المحلية والعربية، الأ انه فضل إعطاء السبق الصحفي الينا في هذا اللقاء حتى نتناول حدثيا لا يخلو من أنين الوجع الذي لا يفارق قلوب إبائنا ونحن الوارثون لهم ،وكان هذا اللقاء في كافتريا المركز الثقافي في شارع المتنبي. في صوته نغمة الصبا الشجية (ياعازف كوم واعزفلي صبا حي، اشيكول الطير لو غرد صباحي)... هذا الطائر كان حزينا منذ ولدته أمه حليمة عام 1918 في ناحية كميت المجر الكبير بمحافظة ميسان، وكان يلوذ مختفيا عن والده الشيخ  غلام علي، بين البساتين على أمل إطلاق صوته الشجي المعبأ بعذوبة الجنوب السحرية، لسؤال لا ندرك إجابته سوى بتلك الأبوذيات والمواويل، ثم ليعلن الرحيل إلى بغداد سنة 1940..(روحي اطلعت بس عكلي سكنهه) ونكمل الحديث مع عباس المنكوب عن بداياته، وبمن تأثر وعلاقته بالسلطة والشعراء والمطربين أمثال سيدة الغناء العربي أم كلثوم وماذا قالت عنه، وعلاقته مع توأم روحه المطرب الراحل داخل الحسن، وكذلك المطرب حسين نعمة، ورياض احمد، وماهي صلة القرابة مع قحطان العطار وآخرين.

كيف كانت البداية؟

في البداية كان نزوحه من قضاء المجر الكبير إلى محافظة بغداد عام 1947، وقد بنى منطقة (الألف دار) في بغداد الجديدة، وبدأ متأثرا بالمطرب داود زيدان، وقدمه للإذاعة عام 1948 وكانت تسمى حينها الإذاعة اللاسلكية وسجل أول أغنية له ومطلعها (أمر على الدار وانشدهه هلج وين ومصايبهه بدلالي هلج ون) بعدها ترك مهنة (خلفة البناء) وانصرف نهائيا نحو الفن والشعر، ليتعلم العزف على آلة الربابة والكمان والسنطور.

ابرز كتاب الأغنية الذين تعامل معهم؟

أول الأمر وفي بداية الخمسينات تعامل مع شعراء الشعر القريض مثل أبو الطيب المتنبي والفرزدق، وللأمام علي (ع) ومن الشعراء الشعبيين الذين كان معجبا بهم كاظم إسماعيل الكاطع، أخذ منهم جميعا مقتطفات رائعة وجميلة، اما الطريقة التي يتبعها مع الشعر الفصيح ثم يردفها بالشعر الشعبي. اما أكثر الشعراء الذين تعامل معهم فهو الشاعر عباس الخياط وتجمعنا معه صلة قرابة (خوال والدي) لأنه من عشيرة العقابي ووالدتي من هذه العشيرة الكريمة.

هذا الموضوع يقودنا إلى ثلاثية موجودة بالغناء العراقي، مثل زامل سعيد فتاح وطالب القره غولي وياس خضر،هل كانت هذه الثلاثية متطابقة العمل مع والدك ؟ ولماذا لم يتعامل مع ملحنين آخرين؟

والدي لم يتعامل مع أي ملحن آخر، والسبب عدم وجود لحن يتوافق مع حنجرته الحزينة، وحتى الأغاني التي يغنيها فهي على مقام الصبا وهو نغم حزين، وهذا لا يعني عدم إجادته بقية المقامات الموسيقية مثل الشطراوي واللامي، بل عندنا كاسيت وهو يؤدي المقام العراقي، إلا إن الطور الذي تميز به (المنكوب) والصبا ، والذي حاول فيها المطرب الراحل رياض احمد إن يقلده لكنه لم يستطيع، ضمن جلسات غنائية في بيت الشاعر كاظم إسماعيل الكاطع والمطرب قحطان العطار غنى لوالدي لحنا وغناء (هاك الجرح يالمنكوب شله، وأماه لاتفرحي بمولدي وتهلهلي، وناديتك وأريد وياك بلله عليك تانيني) وتربطنا معه أيضا علاقة قرابة والدي خاله، كما غنى مع المطرب الكبير داخل حسن أغاني  كبيرة جدا تجاوزت مدتها 120 دقيقة والسبب في ذلك للتقارب العمري فيما بينهما، حتى انه سأل ذات مرة والدي عن رأيه بـ داخل حسن ،فقال : ما أجي ربع من صوته ،وكذلك حينما سأل داخل حسن عن رأيه بصوت والدي فقال :صوته محد يكدر يجيبه ولا يقلده أبدا، اما ابرز أغاني والدي من الشاعر عباس الخياط ،فكانت (فاكهة وموسم كطفه) وهو شاعر وكاتب ابوذيه وموال متمكن، إما طريقته في تلحين أغانيه فكانت عن طريق حفظ المقامات سماعيا، وفي العقد الأخير كنت اعزف وألحن له اغلب الأغاني.

حدثنا عن الدعوات الدولية والعربية الموجهة إلى المنكوب؟

لقد كانت مسيرة والدي حافلة بالعطاء المحلي والعربي والدولي ومنها ،لديه اسطوانات في لبنان ومصر وإيران والكويت ،وهي حفلات موثقة بالأسود والأبيض وتسمى (كرامفون) أم الإبرة ،وهي دعوات تسجيل ومكاتبة مثل شركة (الجقمقجي) بيضافون، ولا يستطيع إن يسجل الأغاني  لدى شركات أخرى ،إما بخصوص الأجور التي يتقاضاها فهو الذي يحددها ،ما عدا أجور الفرقة الموسيقية والتي تتضمن فالح حسن على آلة الكمان وجبار الخياط على الإيقاع وعبود بدن على الرق،، واغلب تلك الأغاني  كانت على إيقاع (أحميد) والسبب إن تلك الحفلات تكون ارتجالية وقصائدها تكون على نغم المقسوم أو الجورجينا.

ما موقف السلطة البعثية من والدك؟

كانت العلاقة ما بين والدي والسلطة البعثية متوترة ومشحونة ،لأنه وكما كان يقولها غير مرتاح إليهم ،وغنى قصيدة ،أين الملوك ياعبود ويقصد بها صدام حسين ،وفي إحدى الحفلات التي كان يقيمها قرب مركز شرطة الرافدين / منطقة الجوادر بمدينة الصدر حاليا  لحفلة زواج احد أبناء عشيرة كنانة سنة 1982 وكنت عازفا حينها معه على الكمان ،وبدأ بالغناء وأثناء الجلسة كان من ضمن الحفلة عدد من البعثيين ،ويطلبون منه الغناء عن الحزب ومدح  قائدهم لكنه كان يرفض رغم خطورة الموقف ،حتى انه غنى ومن تأليفه (شخذ منها ابن  قاسم من بناها )، وبدأوا يرسلون إليه قصاصات الأوراق ،انته شيوعي ما تصير لك كل جاره ، خلص ونحن نتحاسب بعدين، وفعلا بعد انتهاء الحفلة جاءت سيارة دورية الأمن ، واستجوبوا والدي ،أنت ليش تتهجم على حزب البعث ،فقال لهم : ما معقولة عشيرة كنانة عازمتني واني أتهجم على الحزب بفلوس العشيرة ،على أية حال أخذوه إلى منطقة (الكرنتينه ) وكان الخفر عقيدا بالشرطة وقال :اشعنده هذا الرجال المعكل هنا ، فقالوا له انه المطرب سلمان المنكوب وقد كان يغنى بحفلة يمدح فيها عبد الكريم قاسم ،،فقال العقيد لوالدي أنت ليش تمدح بهذا الأغبر ،فقال له والدي :عبد الكريم مو اغبر ،الأغبر اللي ينام بحضن أمه ،هذا الرجل جاء بثورة 1958 وحطم بها القيود عن العراقيين ،ويضيف والدي قائلا :إن العقيد بدأ يضرب بالعصا على رجله ،متأملا ماذا قال له ،فأمر العقيد بسيارة وأوصلوه إلى بيته معززا مكرما ،ثم قال العقيد لضابط الشرطة :نحن بعثناكم على ناس متآمرين وليس على مطرب ،فقالوا له سيدي الأوراق في جيبه أخرجهن وأقراهن ،فلم يجد عقيد الشرطة ما يثبت تهجمه على الدولة والحزب ،سوى الأوراق التي كانوا يرسلونها إليه ،وبالتالي كانت هذه الأوراق دليل البراءة له ونجاته من هذه المصيدة .

وسط هذا التراث الغنائي الكبير، ماذا تمثل إليك هذه التركة، وما هي علاقته بسيدة الغناء العربي أم كلثوم؟

لا شك إن التركة الفنية والغنائية لوالدي مدعاة فخر واعتزازا لي ولكافة محبيه وعشاق صوته وفنه الأصيل ، لما امتاز به والدي بطريقته في الغناء من حيث اختياره كلمة الحكمة والموعظة والإرشاد، وهو القائل (حرض بنيك على الآداب في الصغر ، كيما تقر به عيناك في الكبر، اما عن علاقته بالسيدة أم كلثوم فلقد التقى بها في مصر، وسمعت أغنية المنازل ،وقالت في مجلة الشبكة لسنة 1970 (أتأثر كلما أسمع أغنية المنازل لسلمان المنكوب ) وهو يستمع دائما إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي والى الملحن محمد جواد أموري  والموشحات الأندلسية، وانأ كذلك على نفس هذه الطريقة ،ومعظم أنغام أغانيه كانت عن طريق الاستماع والحفظ ، وعندي أرشيف كامل يحتوي كافة أغانيه والهدايا التي قدمت له ،ونحن من عشيرة العواشق وأصولنا ترجع إلى ربيعة .

ما سبب تسميته بالمنكوب؟

في سنة 1954 حدث فيضان في العاصمة بغداد وبضمتها منطقة الوشاش والتي كان يسكنها  والدي بعد رحيله من محافظة ميسان سنة 1940 ،وقامت الدولة ببناء بيوت سكنية آخري لهم وقد أطلقت تسمية (المنكوبين) على تلك المنطقة ومنها انطلق اسمه ،وقد كان قبل ذلك يسمى سالم العماري .

كلمة اخيرة ماذا تقول فيها ولمن توجهها؟

أقول للدولة بأن عائلة سلمان المنكوب بدون أي راتب تقاعدي، وهو الذي افنى عمره في خدمة الفن العراقي الأصيل ،وليس من الأنصاف والمروءة بأن تبقى عائلته بدون مورد اقتصادي يسد بعضا من حاجاتها ، وكما أشكركم على حواركم الممتع والجميل وسلامي إلى كافة العاملين بالجريدة وتحياتي إلى كافة محبي سلمان المنكوب.